روسيا‮ ‬و‬الصين والناتو‮: ‬امتدادات الحرب في‮ ‬شمال إفريقيا‮

عبد الحميد جماهري

‮وضع‮ «المفهوم الاستراتيجي‮» ‬الجديد ‬لحلف شمال الأطلسي (الناتو‮) ‬شمال إفريقيا‮ ‬في‮ ‬منطقة ذات‮ «‬مصلحة استراتيجية،‮ ‬على جناحه‮ ‬الجنوبي‮». وبذلك تكون الخريطة الجديدة لسياسة‮ ‬الحلف‮ ‬العسكرية‮ قد حدّدت‮ ‬أول مرّة‮، وبصريح العبارة، خط المواجهة الذي‮ ‬انزاح جنوباً نحو القارّة السمراء،‮ ‬بالرغم من أنّ الجناح الشرقي‮ ‬لأوروبا والحلف‮، ‬حيث الوجود الروسي‮ ‬في‮ ‬أوكرانيا هو الذي‮ ‬نال الأهمية الكبرى في‮ ‬بيانات الحلف ووثائقه ومخطّطاته، المتفرّعة عن قمته في‮ ‬مدريد‮، ‬نهاية‮ ‬يونيو الذي‮ ‬ودعناه‮. واعتبرت روسيا ذلك تحويل العالم إلى جبهةٍ مفتوحةٍ ضدها،‮ ‬وقد عبر نائب وزير الخارجية الروسي،‮ ‬ألكسندر‮ ‬غروشكو،‮ ‬عن ذلك بقوله‮: «اعتبار حلف شمال الأطلسي روسيا‮ تهديداً مباشراً سعي‮ ‬خطير إلى المواجهة مع موسكو على جميع الجبهات‮» بل اعتبره تحوّلاً خطيراً‮. ‬بالنسبة لروسيا،‮ ‬التي‮ ‬اعتبرها «ناتو‮» في‮ ‬وثيقة‮ ‬2010‮،‮ ‬شريكاً في‮ ‬الهندسة الأمنية للعالم الصاعد من الحرب الباردة‮،‮ ‬فهذا‮ ‬يعني‮ ‬إخراجها رسمياً من‮ ‬هذه الهندسة‮، كما أنّ‮ «‬اعتبار وجود دولة كروسيا تهديداً للحلف‮ ‬هو تحوّل خطير جداً،‮ ‬إنّه سعي‮ ‬جاد إلى المواجهة معنا،‮ ‬ولاحتواء روسيا على جميع الجبهات، وباستخدام جميع الوسائل‮» كما عبر المسؤول الروسي‮ ‬السابق الذكر‮.‬
وفي‮ ‬خضم الجبهات‮ ‬التي‮ ‬أشارت إليها‮ ‬وثيقة الحلف، وتشكل جبهة للصراع مع روسيا،‮ ‬هناك جبهة الشمال الإفريقي‮ ‬الذي‮ ‬صار معنياً بالمفهوم الاستراتيجي‮ ‬الجديد‮ ‬الذي‮ ‬يحدّد سياسة‮ الـ»ناتو» ودوله، عسكرياً وأمنياً واستراتيجياً،‮ وصار معنياً كذلك في‮ ‬نتائج التعاون مع الاتحاد الأوروبي‮ ‬للعقد المقبل، ‬وصار معنياً عندما‮ ‬يعتبر «ناتو» أنّ روسيا تهديد مباشر،‮ ‬في‮ ‬وقت يوجد الروس في‮ ‬شمال إفريقيا بدرجات متفاوتة، ‬اقتصادياً وعسكرياً وبشرياً، في‮ ‬كلّ من ‬ليبيا والجزائر والمغرب، ‬وتتحدّد‮ ‬المواقف‮ ‬منها،‮ ‬بالتالي‮، ‬من الـ»ناتو» نفسه‮ ‬بناء على الموقف من الهجوم الرسمي‮ ‬على أوكرانيا، والذي‮ ‬تراوح ما بين‮ ‬الامتناع‮ ‬عن التصويت‮ (‬الجزائر‮) ‬والتصويت ضد روسيا‮ (موريتانيا‮) ‬أو الغياب الكلي‮ ‬عن جلسة الأمم المتحدة‮ ‬الخاصة بالتصويت‮ (المغرب‮).‬ ‬ونجد أنّ‮ ‬المتحكّم في‮ ‬مواقف كلّ دولة ‬مصلحتها الوطنية،‮ لكنّ ذلك لن‮ ‬يمنع تطوّر الوضع‮ ‬أكثر، واصطفافاً أكثر وضوحاً في‮ ‬القادم من الحرب‮.
‮ولعلّ ‬من عناصر قراءة مستقبل الشمال الإفريقي‮،‮ ‬على ضوء المستجدّات الاستراتيجية،‮ ‬عنصر‮ ‬الدور الإسباني‮ ‬في‮ ‬هذا التوجّه‮ ‬الذي‮ ‬كان حاسماً‮، إذ يمكن القول إنّ إسبانيا نجحت في‮ ‬أن تجعل خريطة الطريق الجديدة لحلف الناتو، تتضمّنه بشكل قوي‮ ‬وواضح‮.‬ والحقيقة أنّ إسبانيا سعت، بجهد كثير،‮ ‬إلى احتضان القمّة وإنجاحها،‮ ‬لكي‮ تعزّز فكرة أنّ ضفتها الجنوبية مهمة أيضاً لحلف الـ»ناتو» وهو ما عبّر عنه رئيس الحكومة، بيدرو سانشيز‮، ‬بالقول:‮ ‬»ضمنَّا ألّا ‬يكون الجناح الجنوبي‮ (‬للناتو‮) ‬منسياً‮». ‬وهذا الدور الإسباني‮ ‬مفتاحٌ أساسيٌّ‮ ‬في‮ ‬قراءة الوضع الحالي‮ ‬في‮ ‬شمال إفريقيا، وفي‮ ‬استشراف توقعات المستقبل‮، فإسبانيا دخلت في‮ ‬مرحلة عمل استراتيجي‮ ‬جديدة مع المغرب‮ (انظر مقالة الكاتب «التوأم الاستراتيجي‮ ‬الجديد» في‮ «‬العربي‮ ‬الجديد‮»)‮ ‬وقد صارت بقوة القمّة التي‮ ‬احتضنتها‮ ناطقة باسم‮ حلف ‬الناتو ‬في‮ ‬القضايا ذات الصلة بالهجرة وبالإرهاب‮، ‬وميزة الوضع الحالي‮ ‬مع جارها الجنوبي‮ ‬بناء اتفاقيات تليق بالقرن الواحد والعشرين. وفي‮ ‬الوقت نفسه، كانت موريتانيا قد جدّدت مصادقتها على اتفاقية التعاون وحسن الجوار والصداقة مع مدريد التي‮ ‬كانت قد وقعتها في العام 2008، ونفسها إسبانيا توجد على مسافة جفاء مع الجزائر،‮ ‬بسبب قضايا تتعلق بقضية الصحراء المغربية،‮ ‬والتي‮ ‬كانت مدريد قد اتخذت فيها قراراً تاريخياً لم‮ ‬ينل إعجاب الدولة الجزائرية‮. وقد جعل ‬توتّر الوضع بينهما ‬الأمر‮ ‬يصل إلى استعمال سلاح الغاز والنفط‮، ‬وهو ما‮ ‬يعتبره الـ»ناتو‮» ‬سلاحاً استراتيجياً، لا‮ ‬يقبل أن‮ ‬يستعمل ضد أيٍّ من دوله.
في‮ ‬سجل الأزمات التي‮ ‬يكون مصدرها الجوار الإفريقي‮ ‬لحلف الناتو،‮ ‬يذكر أمينه العام،‮ ‬ينس ستولتنبرغ‮ ‬الإرهاب والهجرة‮ ‬غير الشرعية،‮ ‬إضافة إلى التهديد باستعمال الغاز والنفط‮، ‬وهي‮ ‬تلويحات تعني‮ ‬أنّ الجنوب مصدر للقلق‮، ‬ولما‮ ‬يسمّيها‮ «‬الحروب الهجينة‮» ‬التي‮ ‬تكون أراضي‮ ‬شمال إفريقيا إما مصدّراً لها أو معبراً أو ساحة للصراع والتأثير من طرف قوى خارجية‮. ولعلّ ذلك هو مضمر تصريحات‮ الأمين العام للحلف، عندما صرّح‮ أنّ «الدول الأعضاء تطرّقت خصوصاً إلى مسألة‮ ‬سعي‮ ‬روسيا والصين إلى تحقيق تقدم سياسي‮ ‬واقتصادي‮ ‬وعسكري‮ ‬في‮ ‬جنوب أراضي‮ ‬دول الناتو‮». وقد‮ ‬لوّح الحلف بعدم الاستقرار الذي‮ ‬قد‮ ‬يتسبّب به هذا النفوذ المتزايد،‮ ‬وهو ما‮ ‬ينبئ بنية الحلف في‮ ‬دفع شركائه في‮ ‬المنطقة إلى مواقف حدّية حاسمة‮: ‬من ‬معنا ومن ضدنا؟‮
‬أصبحت الصين‮ في‮ ‬خط‮ ‬المواجهة‮، ويكون الحلف الاستراتيجي‮ ‬قد قرّر‮ ‬اتهام الصين بفرض‮ «‬تحدّيات منهجية‮» ‬لأول مرّة‮. ‬وإذا كانت الكرة الأرضية،‮ لا سيما مياه‮ ‬المحيط الهادئ ‬وآسيا، قد صارت جبهة ضد الصين‮، فإنّ شمال إفريقيا معنيٌّ ‬باعتبار الاستثمار الاستراتيجي‮ ‬للصين في‮ ‬حوض المتوسط وفي‮ ‬جنوب الصحراء وفي‮ بلدان‮ شمال إفريقيا. ودولة الزعيم ماو تسي‮ ‬تونغ‮ ‬تكتسب‮ ‬نفوذاً في‮ ‬المنطقة،‮ ‬خصوصاً في‮ ‬المجال الاقتصادي‮، ‬والشراكات الاستراتيجية،‮ ‬وإن انعدم وجودها العسكري‮ ‬الرسمي‮ وغير الرسمي‮. ‬وتربطها علاقات قوية مع الحليف‮ ‬القوي‮ ‬للـ»ناتو» والاتحاد الأوروبي،‮ ‬المغرب،‮ ‬الذي‮ ‬نوّع شراكته بقرار سيادي‮ ‬أعلنه الملك محمد السادس في‮ ‬2016،‮ ‬كما أنّ موريتانيا لا ترفض أفقاً اقتصادياً مع بكين‮، ‬وهو حال الجزائر نفسها‮. ‬ونحن نقتصر على دول المغرب الكبير‮ ‬جنوب المتوسط،‮ ‬لما لها من تماسّ كبير مع تضارب الاستراتيجيات الدولية‮، ‬ولقدرتها على التأثر والتأثير في‮ ‬المنطقة في‮ ‬هذا التوقيت بالذات‮.‬
لن‮ ‬يكون المستقبل القريب‮ مبشّراً بالخير‮ ‬إلّا للدول التي‮ ‬استطاعت أن تبني‮ ‬لنفسها مركزاً في‮ ‬الحرب الثلاثية‮ ‬التي‮ ‬تشغل بال أوروبا وأخرى استراتيجية تشغل بال الحلفاء في‮ ‬حلف الناتو،‮ ‬مركزاً‮ ‬يكشف القدرة على تملك عقيدة أمنية سليمة ومقنعة في‮ ‬محاربة الإرهاب،‮ ‬وعقيدة استراتيجية بالمساهمة في‮ ‬إيجاد شروط الاستقرار والتنمية وعقيدة سياسية للدفاع عن السيادة‮ ‬في‮ ‬بناء الشراكات الدولية على قاعدة المصلحة الوطنية‮، ‬ولعلّ النقطة الكبرى في‮ ‬ضعف الجنوب في‮ ‬ميزان الشمال هو‮ ‬التفكّك والنظرة الضيقة‮ ‬والسلوك الفردي‮ ‬في‮ ‬تدبير المنطقة ومصالحها،‮ ‬عبر رفض أي‮ ‬تعاون أو‮ ‬يد ممدودة لبناء تكتل شمال إفريقي‮ ‬قادر على أن‮ ‬يفرض نفسه في‮ ‬معادلات الميزان الاستراتيجي‮ ‬الدولي‮… ‬وتلك قصّة أخرى‮!‬
نشر بالعربي الجديد 05 يوليوز 2022

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 06/07/2022