ساعة مُتْعةٍ في الأكاديمية (2)

عبد الحميد جماهري

محمد اشركي : الفقه الحي هو الذي يطابق الدستور!
عبدو الأنصاري: المسلمون عاشوا قرنين دون فكرة الشريعة!

ومن أساسيات التحول المغربي، هو دستور المجلس الأعلى العلمي، بالرغم من وجوده سابقا عن الدستور فإن دسترته بالشكل الذي توافقت عليه الأمة جعل المغرب ينتقل من الفقه الفردي إلى الفقه الجماعي.
ولم يغيب الفقيه الدستوري «الحي» النقاش الذي يدور حول حدود حضور الشريعة في إصدار الأحكام، وبعد أن قام بتنسيب اتعريف الشريعة( أعطى مثالا ما قام به دافيد فيشر في كتابه حول الحرية حيث قدم مائتي200 تعريفا لها في كتابه الصادر عام 2004)، وأحالنا على المحكمة الدستورية العليا في مصر في التمييز بين ما في حكم الأحكام القطعية، ويمنع فيها الاجتهاد لأنها من المبادئ الكلية في الدين وما بين الأحكام الظنية، وهي عرضة للاجتهاد، وعادة ما تكون ثمرة مجهود بشري في الاجتهاد. كما أحال في هذا الباب على أحكام المحكمة العليا الإماراتية بخصوص الأحكام حول الفوائد المصرفية. بناء على عدم مخالفتها للدستور، والذي يعتبر الشريعة مصدرا من مصادر التشريع . وكانت أرضية الانطلاق هو اعتبار أن الإقرار بالتحريم قد يهدد كيان الدولة .
وفي المغرب هناك تمسك بأحكام الشريعة القطعية، كما في قول الملك» “لا أحلل حراما ولا أحرم حلالا”« ، واعتبار أن الأحكام الظنية، من جهتها، لا تدخل »ضمن الكتلة الدستورية« .
وعرج الأستاذ أشركي، من زاوية تفعيل وإعمال الفقه الحي على ما بين الاتفاقات الدولية والقوانين المغربية من اتصال، على قاعدة ما سبق.
وقال إن المغرب انضم لتسع اتفاقيات دولية، منها اتفاقيتان تتعلقان بالأسرة، واحدة تخص مناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة، والثانية ذات الصلة بالطفل، وقد صادق عليهما مع وضع تحفظاته، بالتنصيص أنه على استعداد لتنفيذ بعض موادها ( المادة 2 والمادة 16) شريطة عدم معارضتها لمقتضيات الدستور وأحكام الشريعة .
وبعد مضي عقد من الزمن سحب المغرب تحفظاته بمناسبة 10 دجنبر 2010 ، وبعدها يتساءل الفقيه أشركي : ماذا حدث بين 1993 و2010 حتى رفع المغرب تحفظاته؟
هل تغيرت الشريعة؟ كلا ، و الجواب هو أن التغير طال التفكير والاجتهاد، ولربما ارتفع سقفه أو تم تخصيبه تخصيبا أقوى . ومن عناصر القوة في هذا التحول يقول الفقيه ما يميز المغرب هو وجود إمارة المؤمنين، وما تفتحه من اجتهاد ومساحات في العقل المغربي الدستوري والفقهي معا.
ولذلك استخلص نقطتين ذواتي دلالتين: الأولى تفيد بأن الأحكام الشرعية التي تم الاستناد إليها في التحفظ كانت ظنَيِّة وليست أحكاما قطعية، ونفهم من ذلك أن الاجتهاد تجاوزها كما تجاوزها الواقع واشتراطاته.
والدلالة الثانية هو الانخراط في حركية ما سماه الفقيه بالفقه الحي الذي يواكب الزمن لإيجاد حلول للمجتمع لا فرملته. ولعل القفزة المهمة في هذا الباب هو أن توضع ملامح الفقه الحي في متن الدستور، كما أن هذا الأخير يستبطنها.
ويرى اشركي بأن جزءا من هذه الحيوية الاجتهادية تعود إلى اعتماد الفقه المالكي، واعتبر بأن التنصيص على وحدته لدى المغاربة ليس فيه ما يعيبه من جهة الدستور. بل إن التنصيص على وحدة المذهب بالنسبة لفقيهنا» ضمانة للمساواة بين المتقاضين« حيث إن اختلاف المذاهب لو كان حاصلا فإن لكل مرجعيته مما يعطل مبدأ المساواة أو يعيبه من حيث تكافؤ الفرص ووحدة القاعدة.
ومن خلاصات الفقيه، في هذا الدرس الشامل والشيق والغني، والمرجعي كذلك بالرغم من طابعه المناسباتي، هو أن :
ـ ما ليس جائزا شرعا ليس جائزا دستوريا.
ـ أن كل مقتضى شرعيا كان أو قضائيا يستند إلى أحكام فقهية ظنية إذا عارض المساواة أو انطوى على تمييز (بما في ذلك التمييز اللغوي) هو مقتَضى غير دستوري.
ـ المشرع هو الأصل وهو الجهة الوحيدة لإصدار الأحكام الملزمة متمثلا في المجلس الأعلى العلمي، ولا يجوز للفرد أن يفتي في ما يهم المجتمع.
– وأخيرا فإن التعريف الذي نستخلصه للفقه الحي هو الفقه الذي يطابق الدستور، ويقدم أجوبة تتجاوب مع مصلحة المجتمع.
في الواقع كانت الجلسة ممتعة، بقدر ما كانت اجتهادية استشرافية، تنم عن اشتغال عقلاني في نص الدين والدستور، اعتبارا للواقع ومقاصد الفعل التشريعي.
وبدون تجني على المناسبة يبدو حضور أفكار عبدو الفيلالي الأنصاري، طريقة في مطارحات بين أستاذين وقامتين فكريتين، باعتبار أن الأنصاري طرح في تدخله، بعد تنصيبه من طرف الأستاذة رحمة بورقية بتقديم رفيع، كل أشكال المحافظات الإسلاميةconservatismes musulmans، من اللغة إلى العقل ، مرورا بإشكالات العلاقة مع الآخر وقيمه.
المداخلة التي قدمها الأنصاري باللغة التي يكتب بها، الفرنسية، استحضرت الأبجدية العربية وتقنينها من طرف الخليل الفراهيدي، أبجديات نبطية ( وُجدت لقراءة نصوص موجودة سلفا ) ولم يتم ابتكارها لقراءة نصوص لا توجد! ببداهة مثل هاته سيقود عبدو الفيلالي العقل إلى مجاهل وعرة ومشوقة في تضاريس الحضارة العربية الإسلامية.
ولعي أذكر الدهشة المداهمة وأنا اسمع أن الخليل عمل من أجل تقليص دور الكتابة إلى مستواه الأدنى، والاعتبار الذي محضته الحضارة لما هو شفوي، وكذلك الحذر والاحتياط مما هو مكتوب وتحويل «القراءات السبع إلى جزء من اللاهوت الإسلامي«..
ومن مظاهر المحافظة، من اللغة إلى الفكر عبر التدوين ، وجود نظام تربوي عتيق هو نفسه جاء من هذه التركيبة المحافظة، وما يطرحه الانتقال من »إسلام القرآن إلى إسلام الحديث«، وما جاء به من آثار على قواعد الوجود العام .. وذكر الباحث شيئا عجيبا بالفعل، في نوع من التصادي ( من الصدى) مع حديث اشركي، عندما تحدث عن رسالة الشافعي ووضع الشريعة… بعد 150 سنة على وفاة الرسول.(ص) وهو مجهود قام به الفقيه الشهير من أجل »إخراج وإنتاج المُطْلقات في تدبير المجتمع« وفي هذا يقول بقوة: » المسلمون عاشوا قرنين من الزمن دون فكرة الشريعة«!
ولعل ما نختم به هو هاته الفكرة القوية، المعبر عنها من طرفه، بأنه » لا يمكن الحديث عن الدولة، في الفكر الإسلامي طبعا، مع وجود خلفية ربانية تعلو على الدولة نفسها«!!

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 13/06/2024