سعد الله صالح : على درب الأبدية!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

هادئا، رحل عنا سعد الله صالح، مساء يوم الجمعة. توفي المقاوم والسياسي والنقابي والعامل، ببيته، وبيده سبحة رمضانية اعتاد أن يستدرج بها حمام الأبدية…والذين يعرفون بعضا من سيرته، لا شك أنهم استشعروا الحاجة إلى استعارة بلاغية ليصفوا هذه النهاية وليشبهوه ببحَّارعارك الأنواء، وصارع الأمواج تلهث وراء جسده، مثل قطعان ذئاب بحرية، وقد انتهى به المطاف أمام موقد في ليلة هادئة..
الأكثر ميلا للتاريخ منا، تذكروا، ولا شك، قولة خالد بن الوليد : «ما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء».
كذلك كان: بدأ عاملا في محل للحلاقة، ثم أستاذا، حمل البندقية من أجل بلاده، وشارك في معارك ضارية في أيت باعمران وأسر الجنود الإسبان، عرف سجون العهد الأوفقيري الرهيبة، ورموه في بئر «الكوربيس» المهجورة، سقط الكثير من رفاقه بالقرب منه، أو في الساحات العامة، وشارك قادة كبارا تاريخا تجلله الميتات المتكررة للإخوان في كل منعطف..
ونام في عين الموت هادئا، ليلة رمضانية.
سعد الله إنسان مركز، فيه المناضل الطبقي، وفيه المثقف، فيه المقاوم وفيه السياسي، فيه حامل السلاح وحامل الفكرة، رجل الميدان ورجل التفكير المهيكل، فيه بساطة الحي، وشهامة الراحلين..
كثيرون لن يصدقوا بأن في حياته حيوات كثيرة وأنه استطاع أن يعيشها كلها بامتلاء صوفي كبير!
لقد كتب التاريخ سيرته، وبذل زميلنا خليل جبران مجهودا معتبرا في تخليد بعض منها كتابة منذ ثماني سنوات على صفحات هاته الجريدة.
وسيظل جزء منها مرتبا بعناية في طيات السر أو النسيان أو التفاصيل التي يحتفظ بها من رحلوا من رفاقه أو من لا زالوا ينتظرون.
وفي هذا المسار الطويل، جزء كبير من بلاغة مغربية، يقل مثلها.
أتابع حياته الآن، وهو يحضرني بتلك الهيبة الربانية التي لا يحوزها سوى الضالعين في الصفاء، ومن كانت براءتهم النضالية شاهقة…
هاهو يدخل المدرسة في أربعينيات القرن الماضي، وعمره 13سنة!
هاهو يقف في وجه سائحة أجنبية تعشق جمع الصور لأنها حاولت التقاط صورة لمتسول في سوق الكارة.
ها هو يدخل الدار البيضاء ويدخل الحياة الراشدة حلاقا، وعمره 17 سنة.
ها هو يدخل السجن الاستعماري أول مرة بسبب وريقات مكتوب عليها اسم الملك..
ها هو يحكي لقطة سينمائية في بداية المسار الطويل :« تجريدي من حزامي وربطة عنقي وسيور حذائي. ولأن سروالي كان واسعا لا يمسكه إلا الحزام الجلدي، فقد أصبح لزاما علي أن أمسكه بيدي. فقام الشرطي المغربي الذي جردني من هذه «الأسلحة» بحزم عقدة سروالي بعروة قميصي قائلا بتنهد : «آودي أوليدات ديورهم آودي»..
ها هو يدخل المقاومة وخلاياه تحت ظلال الشهيد الزرقطوني، في محل للحلاقة بدرب بلعالية ..
ها هو يعيش هواء الحرية النقي، وهاهي غيوم الاستقلال تتلبد فوق رأسه كما فوق العديد من رفاق السلاح..
وها هي الفوضي تبدأ، ويدخل هو إلى لجنة المشرفين على تسليم السلاح وتسجيل القوائم بدرب الشرفا بالبيضاء..
ها هو جيش التحرير يقرر التوجه جنوبا، ليواصل مسيرة الكفاح المسلح، وها هو سعد الله صالح يتوصل برسالة من « حسن الساحلي – شقيق المرحوم عمر الساحلي- يشرح له ظروف الحياة داخل جيش التحرير ويحثه من خلالها على الالتحاق به».
ها هو يترك السفر إلى العراق من أجل الدراسة، ويترك القلم وحيدا ليحمل السلاح..
هاهو يلتحق بكوماندو في بنسليمان، ضمنهم رحال المسكيني..
ها هو يركب سيارة للمقاومة إلى كلميم، ويكلف بمهمة العلاقة مع الشيوخ الصحراويين …
ها هو الفراغ الذي أعقب السيادة في آيت باعمران يفتح الباب لعودة السلاح.
الإسبان لما رأوا الفراغ الحاصل في أيت باعمران استرجعوا نفوذهم في البلاد، مما خلق اصطدامات مع المواطنين فشرعوا في اعتقالهم، وهو ما دفعه ورفاقه إلى محاربة الإسبان بالسلاح..
ها هو يتوصل برسالة من سعيد ايت يدر وصحبتها حوالي 11 مجندا من الباعمرانيين كبيري السن من ضمنهم من شارك في معارك 1934.
هاهو يشرف شخصيا على استرجاع المراكز الإسبانية
ها هو يحاصر مركز «غار حمايدوش» وبداخله الجنود الإسبان..ها هم الجنود يستسلمون بعد إطلاق النار والقذائف عليهم.
ها هو قائد المركز يحاول الفرار، فتقتله النساء الباعمرانيات، اللواتي كن ينتظرن، رجما بالحجر.
ها هو يجمع الأسرى،42 جنديا في المحصلة.
ها هو يكلف من طرف قيادة جيش التحرير بتنقيل وتهريب الأسرى من مكان لآخر، حتى لا يعرف مكانهم ويتم استنقاذهم..
ها هو يتابع المفاوضات بين جيش التحرير والإسبان، الأسرى مقابل الخروج من الصحراء.
وها هو يكتشف بأن حكومة عبد الله إبراهيم تطلب تسيلم الأسرى..
ها هو يهرب قافلة الأسرى من مكان لآخر خوفا من الإسبان
وكذا من الحكومة المغربية.
ها هو يختلف مع قائد جيش التحرير في الجنوب.
وها هو يشارك في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
ها هو يتقدم بطلب لوزارة التعليم ليعمل أستاذا ببرشيد..في بداية الستينيات.
ها هو يصطدم بمدير المدرسة الفرنسي الذي كان يحرم المغاربة من اجتماعات الأساتذة والبلاد مستقلة!
ها هو الاستفتاء على الدستور يبدأ،
وها هو المرحوم علال الفاسي يدخل برشيد للدعوة إلى التصويت الإيجابي، وها هو مناضله سابقا في صفوف الاستقلال يدعو إلى العكس..
ها هو يترشح في انتخابات البرلمان في 1963.
ها هو يعتقل ويقاد إلى كوميسارية المعاريف السيئة الذكر،
ثم إلى درب مولاي الشريف..
ها هو يغادر الدرب إلى برشيد، ويشرع في تأسيس نواة نقابية ..
ها هو يوطد العلاقة مع عمر بنجلون وتتوطد الصداقة الكفاحية والعائلية.
ها هو يسوق سيارة عمر إلى بيته، بعد أن اعتقل الشهيد جاءت ابنته الصغيرة تجري فرحة وهي تصيح : «بابا ..بابا.. بابا..» فلما ترجل من السيارة فتر فرحها وانكمشت.
ها هو زمن التعذيب يصل، وها هو في غرفة نومه فوقف عليه ثلاثة من البوليس المدني..
ها هو يتلقى أول « شليدة » من العذاب كما يحكي رحمه الله : «جاؤوا بجهاز كهربي موصول بخيوط وضعوا أطرافها على شفتي وعلى أذناي ورأسي وشرعوا يطلقون صعقات كهربية مؤلمة حتى تعوج عضلات الوجه بأكمله. ثم تركوني قائلين : «إذهب الآن كي تستعيد ذاكرتك، فهذه ليست إلا «شليدة» وسننادي عليك لاحقا»…
ها هو زمن «الكوربيس» يصل ويصل معه كل من لم يعترف بمحاولة القيام بالثورة.. والسلاح :أساتذة وهناك أطباء، و محامون وفلاحون وتجار وعمال ومهندسون ومن جميع الأعمار، من المواليد الذين رأوا النور هناك بالكوربيس، وشيخ عمره 106 سنوات!!!
ها هو يلتقي بالفيلسوف سالم يفوت هناك في كهف أفلاطون الجبار.
ها هو ينظر إلى رفاقه يصابون بالجنون.. وها هو يرى رفاقه يموتون» من بينهم العبدي أبو زكرياء »الذي توفي أمامي » كما يحكي هو رحمه الله والمرحوم زايد أوميدو ، وهو من أبطال أيت حديدو ..
ها هي أظافر وها هو شعر ينسل ويفقد قوته ويضعف هاربا!
هاهو السجن، مقارنة بالكوربيس يصير جنة وها هو المعتقل يضحك ويغني..
وها هي دموعي، وها هو ألمي وها هو صراخي: اييه كم صارت البطولة سهلة ورخيصة يا سعد، اييه كم صار الانتماء بلا ذاكرة ولاتاريخ مريحا يا سعد،ايييه..

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 19/04/2021