صورة ترامب والرصاصة التي وحَّدت أمريكا

عبد الحميد جماهري

أقرأ في يومية «لوموند» الفرنسية. عقب حادثة محاولة اغتيال الرئيس السابق (اللاحق؟) للولايات المتحدة دونالد ترامب. أن »كل استراتيجية غريمه جو بايدن استندت على فكرة أن ترامب يشكل خطرا وجوديا على الديموقراطية، والحال ها هو ترامب قد واجه خطرا وجوديا».
ولعل ذلك سيكون مجمدة لحسم خلافاته داخل معسكره الجمهوري، وربما يضعه في المخيال الشعبي الأمريكي المسكون بالمقارنات الغيبية، في صورة القديس الذي يريدون قتله عقابا له لحبه لأمريكا..
لقد رفع شعاره المترع بالروحانية الأمريكية الكاتوديكية cathodique لله والحب والوحدة.
وقد يذهب الذين تعودوا على نظرية المؤامرة إلى إقامة رابط بين صورته وهو يرفع قبضته في وجه الهواء ويصرخ:قاتلوا، بصورة الجنود الأمريكيين وهم يرفعون العلم فوق قمة إيو جيما في الحرب العالمية الثانية.
وسيميل الكثير من الناخبين البيض المتدينين إلى «الدولة العميقة» في تفسير ما يقع. وهي التي تشكل نظاما سياسيا ثابتا، يفسرون به محاولة منع رئيسهم من فوزه، في الانتخابات السابقة، وهم يحاولون اليوم قتله لتنحيته تماما من السباق.
أكبر دولة في تاريخ البشرية وأقواها، التي عبرت القرن العشرين وتعبر القرن الذي يليه، مثل روما الجديدة، يمكنها أن تفسر التاريخ بالأشباح!
ويسير العديد من المحللين إلى نهاية الاقتراع، قبل أوانه، ويصدرون الحكم لصالحه، والذي ستأتي به ديموقراطية أمريكا، التي ألهبت حماس دو طوكفيل في القرن الماضي، ثم ألهبت كل الواقع الديموقراطي العالمي. لست أدري أن ما شدني إلى القصة والعلاقة بين ترامب وبين الفيلسوف المؤرخ والأديب والرحالة الفرنسي، هو قولته عن التاريخ باعتباره متحفا للوحات..
ولعل الصور في أمريكا، كما نبهنا إلى ذلك الزميل عبد لله الترابي، هي نوع من التلخيص القوي لأمريكا، في الصور، ولربما يصدق تنبؤه بأن يكون لها تاريخ، إن لم تكن هي نفسها التاريخ القادم، للجيل الحالي، وكما كان حال الجيل الذي قاده تاريخ ميلاده أو وعيه إلى صورة اغتيال كينيدي.في الصور صناعة مركزة، يلتقي فيها الإعلامي بالسياسي، الخيالي بالواقعي، الروحي بالمادي… هي ثقافة تصنع الصورة، كما قد تحول الصورة نفسها إلى سياسة قائمة الذات.
والصورة ذاكرة سياسية، وفي حالة الاغتيال بدأت أساسا من اغتيال أبراهام لينكولن الذي لقب بأب العبيد إلى الرئيس جون كينيدي، الذي لم يرفع اللغز بعد عن قاتله وأسباب القتل الحاسمة في أكبر لغز إنساني من حجم أمريكا.
في أمريكا يعد التقاطب الحاد سمة من سمات الانتخابات، والذين تعودوا تقديمها مثالا للاقتراع الذي تتحكم فيه الخزينة والشيكات والتبعات المالية لا يعرفون حقيقة هذا التقاطب بل يتعمدون استصغاره .. ولقد قرأنا العديد من المقالات التي تثبت نوعا من التطبيع مع العنف القائم على رؤية العالم وأدوار أمريكا وقيمها، من الأسرة إلى ريادة العالم وتفصيل خرائطه. بل إن السلاح الذي صار جزءا من الخبر الانتخابي هو موضوع تمايز طبقي وإيديولوجي clivage بين اليمين واليسار. ورصاصة واحدة كانت كافية لتوحيد أمريكا!.
تذكرت ما كتبه بنجامين سطورا عن الصور الإيحائية؛ تلك التي تجعل السياسة مرئية، كما قد تجعل الحرب الخفية للأفكار تأخذ شكلا ماديا ملموسا ومرئيا. كما أنها تعطي للمشهد بعدا بدائيا: الرئيس المحتمل لأقوى دولة وهو ينحني هربا من قناص مختفي، وهو يبحث عن الأمان بين أرجل حراسه وهو ينهار!.
شيء ما في الصورة يعيد الرجل الخارق إلى شرطه الوجودي المباشر: الخوف من النهاية. وفي لحظة ما قد تتجه الصورة إلى «نزع أصباغ» المجتمع الديموقراطي المتعالي للغاية. وترده إلى بدائيته الأولى قبيلةً تنتصر بالدم وله، وتلغي كل ما راكمته من عنفوان، لصالح العنف. والصورة كما تزيل الأصباغ هي أيضا تبني المخيال الجماعي.. بل تدخل الجماعة المعنية بها في «زمن كوني ممتد إلى الأبد»!.

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 16/07/2024

التعليقات مغلقة.