عبد الحفيظ القادري: رحيل رجل شجاع!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

هناك، في قدر الرجال الكبار، مفارقة لا يعيشها العاديون من الناس، أن يمر شريط حياتهم أمام أعين أناس لم يعيشوها معهم أو لم يعايشوهم!
ومنهم رجل ودعه المغرب قبل يومين يُعدُّ واحدا من الوطنيين غير القابلين للمقارنة، المغفور له عبد الحفيظ القادري، وهو أحد بناة الاستقلال، مساره له شرفات متعددة كما له عتبات، منها عتبة المدرسة المولوية، إلى جانب الملك الراحل المغفور له الحسن الثاني، وهو من آخر من تبٍقى من أصدقاء الملك الراحل في مقاعد الدراسة…
وهناك عتبته الوطنية ولا شك كقيادي استقلالي وطني من طراز خاص، وعتبته الصحافية بحيث كان من محطاته الإعلامية إدارته اليومية جريدة لوبينيون الصادرة بالفرنسية، لسان حزب الاستقلال، في منتصف السبعينيات إلى حدود 1977…
وعن تلك الفترة، يقول محمد برادة في كتاب له سيصدر قريبا، إن الفقيد كان من الذين دعموا فكرة إنشاء شركة «سابريس» للتوزيع، الشركة العربية الإفريقية التي جاءت كرد فعل على هيمنة الموزعين الفرنسيين على قنوات الاتصال بين الشعب والصحافة.
وكان القرار محفوفا بغير قليل من المغامرة ، لأن الوقت كان وقت رصاص والجبهة الوطنية على تنافر غير مستحب، كما أن الفقيد القادري كان أحد أعمدة التأسيس وهو أول رئيس للمجلس الإداري لـ»سبابريس».
ومن مصادفات الأقدار التي تجمع الأفراد في مشروع موحد، بجذور عميقة في التربة الوطنية أن محمد عبد الرحمان برادة، الذي ارتبط اسمه باسم «سابريس»، كان واحدا من الرجال القلائل الذين ودعوه في بيته أياما قليلة قبل رحيله رحمه لله.
قبل ذاك كان مولاي حفيظ القادري سليل الشرفاء القادريين، من أوائل المهندسين في المغرب المستقل، كما كان من رواد الحركة الوطنية في العمل السياسي الوطني، وقد قاده قدره القادري إلى أن كان مرافقا ملتصقا بأب الروح الاستقلالية الكبير علال الفاسي، وهو قد ظل معه في لحظات الشدة هنا وفي الخارج، ومما يحكيه أهل الفاسي أن الفقيد كان وراء نقل الزعيم إلى بيت غير معروف، بعد أن وقعت أحداث انقلاب الصخيرات في سنة 1971، وقتها كان الاستقلال في المعارضة، وكانت قيادته تستعد، في قراءة مشتركة مع الاتحاديين، لميلاد الكتلة الوطنية، وهو أيضا من رافق الزعيم في رحلته حول العالم دفاعا عن الصحراء ومغربيتها، رحلة قادته في نهاية المشوار إلى رومانيا أيام الرئيس نيكولاي تشاوسيسكو.
وقد حكى الفقيد امحمد بوستة عن تلك اللحظات عندما استقبلهم القادري في البلاد حيث شرح في مذكراته…» الوطن أولا، والتي صاغها الزميل سراج الضو» «ذهبنا إلى بوخاريست برومانيا كمحطة أولى في هذه الجولة الأوروبية، وكان في استقبالنا عبد الحفيظ القادري، الذي انضم إلينا في هذه الزيارة»، تلك لحظة قُدِّر لحفيظ القادري بأن يشهدها، مع امحمد بوستة..
فكان أن وقع ما يلي والوفد بحضرة الرئيس الروماني في قصره :»بحركة مفاجئة، هب علال الفاسي وهو يهتف واقفا «هواء.. هواء .. إني أختنق«، وذهب مسرعا نحو إحدى النوافذ ليستنشق الهواء. كان الكل مندهشا مستغربا مما انتابه، خاصة أن القاعة كانت كبيرة وهواءها منعشا. أسرع إليه عبد الحفيظ القادري واصطحبه إلى خارج القاعة، وقبل أن يغادرها التفت إلي قائلا: «أتمم… أتمم ما كنت بصدد الحديث عنه مع فخامة الرئيس، فإنك على دراية بالموضوع وتعرف الملك». في الواقع، لم يبق لنا في خضم هذا الحادث ما يتم الحديث عنه، بل إن الكل توجه إلى خارج القاعة للاطمئنان على حالة علال الفاسي، وعندما خرجنا وجدناه متكئا على كتف عبد الحفيظ القادري رافعا سبابة يمناه إلى السماء في حالة تشهد، هنالك فارق الحياة.».. لقد مات الزعيم ورأسه على كتف الراحل القادري.
ولكن الذي يسترعي في سيرته هو ارتباط اسمه بموقف مشرف للغاية، مع الفقيد عبد الرحيم بوعبيد. فقد رفض، بالأدب الذي يجب أن يكون في حضرة السلطان، اعتقال الزعيم الاتحادي، وقال قولته بـ «أن بوعبيد لا يمكن أن يعتقل»، في إحالة لما قاله ديغول عندما عرضوا عليه اعتقال سارتر في ربيع ماي 1968 وانتفاضته حيث أجاب »لا يمكن اعتقال فولتير»..!
هذا الموقف هو الذي رافقنا في ثمانينيات القرن الماضي، وهو الذي رفع اسم الفقيد في قلوبنا، يوم كان هناك من الطبقة السياسية من طالب بحل حزب الاتحاد واعتقال بوعبيد بالقولة السرية الشهيرة!!! سيدنا هادا راه ازطم ف الرياض»!! في إشارة إلى عدم احترام قرار الملك بقبول الاستفتاء!
وقتها اختلطت الأخبار الدقيقة، والزمن زمن شح وندرة وتوجس، بالأخبار الحالمة، وتهامسنا بيننا في تلك اللحظة الحرجة أن الفقيد القادري يكون قد قال في اجتماع للقيادة في حزبه أن «عبد الرحيم بوعبيد تجاوزنا في الوطنية»، ولا أحد يمكنه أن يثبت ذلك بعد أن غابت الغالبية الساحقة من الشاهدين على العصر.
والواقع أن الرجل كان في موقع رسمي، بالرغم من رفاقيته الدراسية للملك الراحل، وكان الوزراء قد تعلموا أن يسكتوا ويحركوا الرأس بالموافقة.
ولم يكونوا أصلا محط احترام جيل من السياسيين الثوار الشباب مثلنا!!
لكن هذا الاسم دخل إلى تشكيلتنا الروحية العميقة بسبب موقف ليس ككل المواقف..
بعد الوزارة سيتم له اختيار «منفاه« إلى إسبانيا حيث تم تعيينه سفيرا فيها بدءا من 1985…
سليل الصوفية والوطنية، المهندس العصري، والوطني المخضرم، الذي بصم روح أجيال قبل أن يبصم استقلال بلاده، أتمنى أن تُكتب سِيَره العديدة، وأن تجد ذاكرته حيزها في المكتبة الوطنية المليئة بثقوب الذاكرة الوطنية بالرغم من مجدها.. رحمك لله أيها الشجاع.

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 14/12/2023