على هامش ندوة الشبيبة.. : المغرب تحت عتبة الفقر في الماء!

عبد الحميد جماهري

أخيرا قررت وزارة الداخلية أن توقف هدر الماء الصالح للشرب في سقي ملاعب الجولف والمناطق الخاصة بالنزهة و«تخضار العينيين..»، ولست أدري لماذا لم نحتفل بقرار من هذا القبيل، الذي يكشف بالفعل أن الذي اتخذه غامر كثيرا في بلاد تصبح فيها ملاعب الجولف، من قبيل «محميات النبالة» الجديدة.. ويعتبر هذا العبد الفقير لرحمة ربه أن أية استراتيجية، مهما كانت ثاقبة إذا هي لم تلمس اليومي والمعيشي البسيط فستظل مجرد «رقى» سياسية وفتاوى مغلفة بالأمنيات، وإذا هي لم تقنع العطشانين أن الذين يختارون الثقوب الثمانية عشر يمكن أن يطالهم القانون، بعد أن ظلوا في معزل عن مشاكلنا المائية.
يلزم شجاعة في اتخاذ القرار في رأيي..
وليس القرار الذي يطبق فقط على من لا ثقب له سوى ثقبة المرحاض التي يفجر فيها كل فائض الماء الذي يحوزه، في حيزه الضيق.
في العاشر من فبراير الماضي، كتب العبد الفقير لرحمة ربه، في المجال ذاته، عن ضرورة اتخاذ القرار بقوة القانون.. وعن « الخيار الرابح المتمثل في الرفع من درجة التحسيس بضرورة الاقتصاد في الماء واستعمالاته.
‎وفيه، شقان، الأول متعلق بالثقافة الفردية، واليقظة الذاتية للضمير، والشق الثاني في حالة ظل الضمير جافا وقاحلا ولا ينظر أبعد من صنبور»‫…‬ وقتها كان لزاما الوقوف عند هذه المفارقة ‫:‬«ففي الوقت الذي ما زالت فيه المساحات الخضراء تسقى بمياه الشرب وملاعب الكولف وملاعب القرب، والسيارات تغسل أمام الكاراجات والبيوت بأدْلاء من الماء واستعمال خراطيم المياه، وما زالت حاجاتنا من الماء في الاغتسال تفوق كل ما قد نحتاجه، لا بد من اتخاذ القرارات الزجرية، بالقانون، وبالدعائر‫..»‫.‬
في جهة الدارالبيضاء مثلا، ما زالت بعض الدواوير، على بعد كيلمترات قليلة من أكبر مدينة في البلاد وعاصمة المستقبل والحداثة، بدون ماء صالح للشرب، ولكن كل ملاعب الغولف تستعمل المياه الصالحة للشرب في اخضرارها والحفاظ على رونقها.. في البرنامج الجهوي، تمت برمجة بناء 15 مشروعا في أفق 2027 لمعالجة وإعادة استخدام المياه العادمة لسقي المساحات الخضراء، وسيخصص منها 7 مشاريع لسقي ملاعب الكولف ،‎ لا داعي للحديث عن التأخر الوطني عن تجارب الدول التي تحيط بنا أوروبيا في تدبير ندرة المياه …
فعلما أنه في المغرب يعادل الحكم، سقوط المطر، أو Au Maroc gouverner, c’est pleuvoir. هذه العبارة التي تنسب خطأ إلى الجنرال ليوطي، قالها في الواقع «تيودور ستيغ»، الذي شغل منصب الحاكم العام للمغرب المستعمَر من 1925 إلى 1929، سنة ميلاد المرحوم الحسن الثاني، الذي أدرك عمق المقولة وعمل بها. «والوجه الآخر للعملة هنا، هو أن الجفاف قد يقلب كل التوازنات الاقتصادية والسياسية في البلاد…» بيْد أن الماء ليس نظرية في السياسة والاقتصاد فحسب، بل هو أولا وأخيرا مسألة حياة وموت الشعوب والأفراد. «الآن، السماء قاحلة هذه السنة، الجفاف يحفر من الآن أخاديد في الأرض، حيث لا مياه ستهدر فيها. الجفاف قائم، والسدود في مستواها الأكثر انخفاضا، بفارق كبير عن الفترة نفسها من السنة الماضية…» وبعيدا عن إسقاطات التساقطات المطرية على المحصول الزراعي، الذي يعد احتياطيا استراتيجيا حاسما بالنسبة لبلاد مثل بلادنا، وعلى الاقتصاد القروي وعلى أوضاع الفلاحين الصغار والمتوسطين وأسرهم، وهو ما يتطلب استراتيجية سريعة واستثنائية، هناك إسقاطات العطش…«ماذا نملك نحن من الوسائل لاستباقه؟ نحن لا نملك من شؤون السماء سوى الصلاة والتضرع للعلي القدير…» ولا نملك أمام التغيرات المناخية سوى أن تدرك البشرية أنها ذاهبة إلى جحيم حتمي إن هي لم تعد النظر في سلة مهملاتها النووية والغازية والكاربونية… «وقد ساهم المغرب، باحتضانه لمؤتمر المناخ في مراكش، مساهمة تحسب له في التحريض على هذا الوعي، وامتلاك ناصيته، لكن مخرجات المؤتمر والمؤتمرات قبله وبعده، مرهونة بقرارات كبار العالم، وباستراتيجيات دولية.»ماذا يتبقى لنا إذن؟ «بيدنا فقط الاستراتيجية الوطنية للماء… ولنا منها الواقع الحالي، ولنا منها المستقبل في أفق 2030 ثم 2050.»في التوصيف الراهن تسجل كل الهيئات والمؤسسات المنشغلة بالماء تراجع حصة الفرد المغربي الواحد إلى أقل من 650 مترا مكعبا سنويا، ابتداء من 2015 مقابل 2500 متر مكعب سنة 1960، ومن المتوقع أن تقل هذه الكمية، وهي حاليا أقل بكثير من ما يسمى «مستوى فقر المياه» البالغ 1000 متر مكعب للفرد في السنة.ومن المتوقع منطقيا أن يزداد الوضع ندرة، مع ما تتطلبه معدلات النمو السكاني والتوسع الحضري السريع والتغيرات في بنية الأسرة والازدهار الاقتصادي، وهي كلها مجالات لصناعة العطش والإفراط في استهلاك الماء ترفع من الطلب عليه.

فقر الماء الحالي والقادم، وضع مقلق ويزداد ضغطا على صاحب القرار، إذا علمنا أن حصتنا من الماء منخفضة عن المعدل المتعارف عليه دوليا..في وقت لنا أوراق رابحة كثيرة .
‎فالوضع الموسوم بفقر الماء، يوجد والمغرب يتوفر على شبكة سَدِّيَة من 149 سدا كبيرا بسعة إجمالية تقدر بـ 19 مليار متر مكعب، كما توجد 5 سدود كبيرة جديدة، بسعة 525 مليون متر مكعب، قيد التنفيذ‫…
‎لنا ما نفتخر به، إذن، لا سيما وقد كشف الجمود الذي ساد حركة العالم طوال سنتي الحجر الوبائي بأن المغرب يستطيع أن يوفر الغذاء لأبنائه بفضل هذه السياسة السَّدِّية‫… الوثابة والاستباقية‫…
‎يضاف إلى ماسبق وجود شبكة من عدة آلاف من العيون والآبار لتخزين المياه الجوفية.
‎وقد ضَمِن المغرب بفضل هذا، تأمين إمدادات مياه الشرب للتجمعات السكنية بحواضرها وبواديها، علاوة على شبكة ري حديثة تغطي ما يقرب من 1.5 مليون هكتار‫…
لنا أيضا منظومة حديثة لإدارة المخاطر من خلال الحماية من السيول والفيضانات، واستخدام واستعمال المياه في توليد الطاقة الكهرومائية، وهذه المنظومة الشاملة تكشف عن وجود استراتيجية فعالة لإدارة الموارد المائية للـ20 عاماً القادمة…
خلاصة القول إن المغرب يراهن على:
1 – تحلية المياه.
2 – بناء سدود تلية.
3 – نقل المياه من المناطق التي تعرف وفرة في مياهها الجوفية إلى تلك التي تشهد نقصا موسميا.
4 – زيادة منسوب الوعي بضرورة الاقتصاد في استخدام المياه.
في الوضع الاستعجالي الحالي، أمام نُذُر الجفاف وما يليه من عطش..  هناك مخططات على الورق وأموال في الميزانية حيث تم تخصيص أزيد من مليار و300 مليون درهم من أجل البحث عن مياه جديدة لمد السدود أو تحلية المياه.
كما أن البلاد تفكر في سدود تلية في زمن الجفاف وتسير نحو بناء 120 سدا تليا في أفق2024.
ومن مفارقات هذه السدود التلية أنها مخطط ضد .. الفيضانات وضياع المياه، في سنة لا مياه فيها تفوق المعدل!
السدود تستوجب مياه بالكثرة، مياه غامرة ونحن في زمن الجفاف والسماء مقفرة!
بالنسبة للاختيار الأول، والمتعلق بتحلية المياه، فقد سبقنا إلى ذلك منذ 1973!
ففي تلك السنة أطلقت بلادنا أول محطة لتحلية المياه بمدينة طرفاية، وتلتها محطات صغيرة في الجنوب ومناخه الصحراوي الجاف، بيد أن قدراتها تقف في حدود أمتار مكعبة قليلة يوميا.
اليوم انطلقت في ثلاث جهات على الأقل مغامرة محمودة في سياق تحلية مياه البحر، ومنها محطة أكادير، والتي تعد إحدى أكبر محطات تحلية مياه البحر في حوض المتوسط وإفريقيا…
‎وتبلغ سعتها في مرحلة أولى 275 ألف متر مكعب في اليوم، منها 150 ألف متر مكعب موجهة للمياه الصالحة للشرب، وتمكن ما يناهز مليون و600 ألف نسمة من الحصول على هذه المياه في جهة سوس ماسة ‫…
في باب نقل المياه وترحيلها من فرشات ثرية إلى أخرى ضامرة، لا أعرف لي مثالا، ولعله جهل مني، لكن لا أثر لهذه العملية في محركات البحث…
نصل إلى الخيار الرابع والمتمثل في الرفع من درجة التحسيس بضرورة الاقتصاد في الماء واستعمالاته. ولن يقبل من السلطات العمومية والمشرعين أن يجعلونا ننتظر العطش، بإجبارية وقدرية لا مثيل لهما.
كما لو أننا نساق إلى العطش تحت الإكراه البدني..
قد نحل مشكلة الحليب بـ«الحليب المجفف» المعروف مغاربيا بـ«لَحْليب غبْرة».لكن لحد الساعة لم تكتشف البشرية بعدُ تقنيةً لصناعة .. الماء المجفف، «المْا غبْرة »!‬‬‬‬‬
في توصيف الحالة الراهنة، نقول بأننا على دراية كبيرة بالعطش من القدم، ولكن معضلة الماء لم تصبح واقعا للتأمل إلا حديثا، هي مفارقة بين التاريخ .. في العطش. والسياسة في الماء!
‎من حسن حظنا أن الأنهار كلها لنا من المنبع إلى المصب، وأن الماء، ليس مشكلة جيواستراتيجية يتدخل فيها الجوار السياسي والترابي..
وهذه الفكرة البديهية، نكاد لا نراها،
ونكاد لا نشعر بها، بالرغم من أنها مسألة حيوية وذات أبعاد لا حدود لها، إذا ما نحن استحضرنا ما يجري حول النيل، بين اثيوبيا ومصر والسودان والتوترات الترابية والسياسية والحيوية..
من حسن حظنا أننا لسنا في مشترك مائي، سياسي، كما هو الأمر في دجلة والفرات، بين العراق وسوريا وتركيا، هذا لوحده نعمة من الله..
خارج هذه النعمة الإلهية، المدسوسة في طبيعة المغرب وجباله، كل شيء يدخل في السياسة والمجتمع. .
الماء معضلة تبدو حديثة في المغرب: مع تفاوت مفارق في الطرف الثاني من المعادلة: الجفاف معضلة قديمة، لكن الماء لم يصبح معضلة، إلا حديثا..
كيف؟ عندما لا يسقط المطر، تنهض الثورات
والتوترات
ويصبح الفلاح خارج طوره ويهدد بذلك نظام الحكم..
غير أن العطش صار معضلة حديثة في بلادنا..
معضلة الماء من اختراع المرحلة الجديدة، إذ لم يكن موجودا كمعضلة شرب، إلا بعد أن صار معضلة اجتماعية.…
نحن اليوم في طور اكتشاف الماء، بعد أن اكتشفنا الجفاف!
الماء هو العطش، هنا…
وليس الجفاف الفلاحي
أو جفاف الأنهار نسقيها بالماء الصالح للشرب!
في البيضاء دوما،تمت برمجة محطة لتحلية مياه البحر بتكلفة إجمالية تقدر بـ 400 مليار سنتيم، وهو عمل بليغ وبالغ الأهمية.
لكن الذي سيبقى معلقا كسؤال:هل يكفي التحسيس والإنفاق العمومي الضخم لحل معضلة، بدون قوة القانون؟
ما هي الترسانة التي يمكنها أن ترافق كل هذا؟
الفلاحة ، أيضا: هل يمكن أن نزرع كل شيء ونفلح كل شيء، بما في ذلك الفلاحات التي تتطلب الماء الوافر والوفير، لكي نصدرها إلى بلدان أوروبا حيث الماء أكبر، كما تساءل الوالي ورئيس الجهة معا في ندوة صحفية عقب اللقاء؟
ومن الحتمي أن الماء، في المستقبل القريب سيصبح معادلة لا تنفصل عن الطاقة الشمسية وغير الشمسية وعن الهواء وعن كل رهانات التراب في بلاد المغرب.
الماء الشروب سننتجه، وسيكون علينا أن نطرح السؤال: هل نعيد تخزين الماء من أجل أن نبذره كيفما اتفق أم نصنع منه اقتصادا يقوي الاقتصاد ويضمن السلامة المجتمعية؟
إنه سؤال في جوهر السياسة المائية…

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 25/07/2022