عندما تؤمن البرازيل بالمغرب

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

فابيو ألبيرجاريا دي كيروز، أستاذ عامل بمدرسة الدفاع البرازيلية، التي وقعت، في بداية الأسبوع الماضي، مذكرة تفاهم مع الكلية الملكية للدراسات العسكرية العليا بالمغرب، وقد حرص أن يعطي للاتفاقية، معنى أوسع من المضمون التقليدي الذي يكون عادة في مثيلاتها . فهو يرى أن البلدين محكومان بقوة التشابه بينهما، على أساس مرتكزين اثنين من أعمدة التعاون: تعزيز الأمن الغذائي وبناء السلام في منطقة المحيط الأطلسي…بالنسبة للأمن الغذائي، جرب البلدان، تدبيرا متوافقا عليه في عز أزمة الحبوب الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، وملخص هذا التدبير أن برازيليا والرباط تبادلا الحبوب والأسمدة، بعد أن فرضت الهند المزود الأكبر للمغرب سيادةً على حبوبها ومنعت تصديرها والنقص الحاد في الغذاء يلوح في الأفق.
ويعد المغرب حاليا ثالث مصدر للأسمدة إلى البرازيل بعد روسيا وبيلاروسيا،  وهو ما تأثر، بلا شك، بفعل الحرب والحظر المفروض على روسيا، كما أن المغرب وجه مادته الحيوية، التي أصبحت ورقة جيوستراتيجية حاسمة في علاقاته الدولية، نحو الدولة اللاتينية من أجل الحبوب عوضا عن الهند…
بالنسبة للنقطة الثانية، يرى الأستاذ البرازيلي أن هناك هوية مشتركة قوامها أطول ساحل أطلسي. وعليه فإن “البرازيل في أمريكا الجنوبية، والمغرب في إفريقيا، بلدان لديهما أطول ساحل للمحيط الأطلسي، لذا فمن الطبيعي أن يتم التقارب بينهما ومن المصلحة المشتركة أن يكون المحيط الأطلسي منطقة سلام وتعاون”.
وهو الذي يكشف أن الأدبيات العسكرية البرازيلية ووثائق الدفاع الوطني في بلاد بيليه ولولا تولي أهمية خاصة لمنطقة غرب إفريقيا، “الساحل الغربي لإفريقيا هو مجال اهتمام بالنسبة للبرازيل”…
وهو ما يحيلنا على أصل الأشياء، متمثلا في مصادقة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ على اتفاقية تعاون في مجال الدفاع مع المغرب، قبل شهر بالتحديد من الاتفاقية بين الأكاديميتين العسكريتين، وهو الاتفاق الذي طبعه بالأخص التنصيص على “احترام سيادة البلدين احتراما مطلقا”، ومن أهم محاوره، ولا شك، تعزيز عمليات التدريبات والتمرينات العسكرية المشتركة وتبادل المعلومات والتعاون بخصوص أنظمة ومعدات الدفاع، وتنفيذ وتطوير برامج لتطبيق تقنيات الدفاع، ونقل التكنولوجيا والمعرفة، كما توجد البرازيل في قلب دول “الميركورسور” ، التي تعد قوة إقليمية تضم إضافة إلى البرازيل، الأرجنتين والأوروغواي والباراغواي، وتعرف العلاقة معها دينامية استراتيجية.
وهو ما أكده الديبلوماسيون المعتمدون في الرباط في مارس 2021، في رسالة تم تعميمها اعتبرت المغرب “شريكا استراتيجيا بالنسبة لأمريكا الجنوبية”، وهو ما لا يملك الاتحاد الأوروبي مثلا حق ادعائه: والدليل أنه عرض أول أمس الأربعاء” خطة لتعزيز العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية” بعد أن شهدت علاقاته بالمنطقة عراقيل على خلفية عدم التوصل لاتفاقية تجارية شاملة مع مجموعة “ميركورسور”، خلال عقدين من الزمن.
ناهيك عن خلافات عميقة مع البرازيل، باعتبارها قوة إقليمية رئيسية، على خلفية غزو موسكو لأوكرانيا وتداعيات تلك الحرب، وهو موضوع آخر يَسْتَفْرِدُ المغرب فيه بأسلوب متميز جدا أنقذه من السقوط في الاختيارات الصعبة!
نحن في الواقع أمام اتفاقية أكبرمن اتفاق!
وقد صار من الطبيعي، في العلاقة الديبلوماسية المغربية، الذهاب أبعد من تقاليد العمل في الشؤون الخارجية، أو أعرافه، في كل خطوة تتم.
ولعل الاتفاق المعروض اليوم على المؤسسات في البرازيل، بخصوص الاتفاقيات السبع الرئيسية يحيلنا على مقاربة أبعد تستحضر أحد عناصر التحليل الديبلوماسي، وذلك عبر تحديد ” مقومات الهوية الاستراتيجية المغربية ” في أمريكا اللاتينية. وبهذا المعنى فإنه في الواقع لا يمكن حصر التعاون المغربي – البرازيلي في منحنى تطوري ثنائي لعلاقات بلدين يحترمان بعضهما البعض، ويسعيان معا إلى تموقع دولي ناجح، بل باعتباره مقوما من مقومات العلاقات مع أمريكا اللاتينية، وربما اعتبار الاختيار البرازيلي للمغرب، رأس الجسر نحو قارة في وضع تحولات سياسية ومؤسساتية تعيد تشكيلها باستمرار.
بالنسبة للموضوع الحالي، ( لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ تصادق على اتفاقية تعاون في مجال الدفاع مع المغرب) فإن الوضع الحالي متقدم بمقتضى اتفاقيات متعددة بين برازيليا والرباط تغطي “مجالات مختلفة من الاستثمار إلى الدفاع، مرورا بالمساعدة القانونية المتبادلة وتجنب الازدواج الضريبي على النقل البحري والجوي”.
ومن المحقق كذلك أن من يقارن هذه الاتفاقية مع غيرها، سيجد ما أصبح يعتبر في الأدبيات الديبلوماسية بـ”أسلوب مقاولاتي في العمل الدبلوماسي” نجح في القارة الإفريقية حيث شهدنا اختراقا منقطع النظير، وفي العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وبعض القوة الآسيوية(الصين والهند واليابان خصوصا).
غير أن المغرب اختار أن يتواجد في القارة اللاتينية، ومنه في النظام الدولي، من موقع الاعتدال والتعاون، وعليه تستدعي العلاقة مع أمريكا اللاتينية ضرورة تحديد التوجهات التي تأخذ شكل أطروحة ديبلوماسية ضمن نسيج متكامل.
يلاحظ المتتبع المكانة التي نالتها الانشغالات العسكرية في الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، وهي انشغالات أمنية واقتصادية وعسكرية بتفرعاتها الممكنة، والتي تفضي إلى تحديد الإطار المبدئي لطبيعة التصور الذي يحكم الديبلوماسية عبر بناء “معايير العلاقة الدولية” في خدمة المصالح المشتركة:
1 – بالنسبة للبرازيل، لقد اقتضت المصلحة الوطنية أن ينأى المغرب بنفسه عن “التخندق الإيديولوجي” في العلاقات اللاتينية، ويحاول تكسير الاحتكار الذي كان يتمتع به الخصوم في المنطقة.
ولعل المتتبع لن ينسى لحظتين اثنتين مهمتين في العلاقات، لعل أهمها الزيارة التي قام بها جلالة الملك إلى القارة، وزار خلالها خمس عواصم مركزية كانت من بينها برازيليا في 2004.
والمشهود اليوم للعملاق اللاتيني بأنه صار قوة صاعدة تتقوى باستمرار كمركز ثقل استراتيجي (مجموعة البريكس).
ويسعى خصوم المغرب، كما حصل في القمة الأخيرة بجنوب إفريقيا، إلى إسقاطها في فخ الصراع معه في قضيته الوطنية،(موضوع سنعود إليه )، علما أن دولتين على الأقل من مجموعة “بريكس” ليستا على قناعة مطلقة بالانفصال، وهما الصين والبرازيل.
2 – البرازيل من الدول المتنامية القوة ولها في بلدان الكارييب، التي تشغل نفس الاهتمام عند المغرب، مكانة المحيط الحيوي الذي لا يمكنها العيش بدونه..
ـ البرازيل قطب الرحى اللاتينية، شكلت إلى جانب الشيلي والبيرو والأرجنتين والمكسيك، موضوع »بَاليهْ« ديبلوماسي ملكي، كان من نتائجه قرار ثنائي شكل حدثا: وهو قرار عقد القمة العربية – اللاتينية، والذي تم بتنسيق بين البلدين، وهو مقدمة لما اعتبرته الديبلوماسية المغربية هدفا بعيد الأمد يروم خلق نقطة تلاقٍ (هوبHUB) إقليمي بين العالمين العربي والإسلامي من جهة، والعالم الإيبيرو- اللاتيني من جهة ثانية.
3 – تشكل البرازيل كغيرها من الدول اللاتينية، منطقة نفوذ تتأثر بالمواقف الإسبانية، لاعتبارات تاريخية وأخرى لغوية وثالثة اقتصادية وإنسانية، ويمكن القول إنها لن تبقى في منأى عن التأثير الإيجابي لمدريد في قضية وطنية، وفي مصلحة اقتصادية مشتركة…
4 – للمغرب ورقة بشرية وثقافية مهمة داخل البرازيل تتمثل في الجالية اليهودية المغربية التي استقرت في القرنين 18 و19 في البرازيل والبيرو والأرجنتين وظلت على علاقة مع الوطن الأم.
وقد سبق لنا أن عشنا بعضا من تفاصيل هذا الرباط الإنساني العميق، والذي يتجدد بمناسبات دينية، سواء خلال المؤتمر العالمي للشباب والديموقراطية في فنزويلا، أو من خلال الزيارة الملكية الى البرازيل مع وجود أزيد من 20 ألف مغربي يهودي استقروا في الستينيات من القرن الماضي في كل من البرازيل والشيلي والمكسيك .. (انظر مقالة يسرى أبو رابي في موقع جاك بيرك).
لقد صار من الضروري تركيب الصورة كاملة في العلاقة مع البرازيل وصياغة إطار نظري لمقومات الفعل الديبلوماسي في القارة اللاتينية أو في غيرها لفهم تطلعات المغرب من وراء الطريق السيار لدبلوماسيته ومع أمريكا اللاتينية عموما، بعيدا عن “الحدثي والعابر evenementiel ” ، مع معالجة درجات القصور أو الاختلال والتي لا تنقص من أهمية ما يحدث في شيء.
التحول الحادث اليوم، بتؤدة وبإصرار، ينتظر لحظة الانعطافة الكبرى في الموقف من الصحراء وسيادة المغرب، وقد بدأ الاختراق منذ مدة لكنه يعرف في الآونة الأخيرة تصويبا ذكيا لعل أحد محدداته هو اعتماد مجلس الشيوخ البرازيلي   ملتمسا وقعه 28 عضوا لدعم مخطط الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، يدعو إلى دعم “أكثر تعبيرا” للجهود “الجادة والموثوقة” للمملكة في البحث عن حل لهذا النزاع الإقليمي، وعليه فإن البرازيل التي اتخذت دائما موقفا بناء ومعقولا بخصوص هذا النزاع الإقليمي، مدعوة لاجتياز خطوة حاسمة تعزز الثقة المتنامية لا سيما وأن البلدين اتفقا على الاحترام التام والمطلق لسيادتهما كما يحددانها بطبيعة الحال.

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 09/06/2023