عندما تكون الذاكرة تراثا وطنيا!
عبد الحميد جماهري
الشجرة التي تعمر قرنا كاملا ولا تفقد خضرتها ولا طراوتها ولا عنفوانها ، يصبح اسمها محمد بنسعيد أيت يدر!
الفصيلة التي كلما تقدمت في العمر، زادت شبابا، وكلما نما الشباب عاد إليها وهي في المائة من العمر، تصير فصيلة المقاوم أيت يدر ..
مثلما تفقد الشجرة أوراقها، فقد رفاقا كثيرين في طريقه، أوراقا له.
فقد مقاومين كثيرين في طريقه إلينا، كي يموت هانئا باسما، ولا شك، في سرير من أسرة المستشفى العسكري بالرباط…
قطع قرنا وخارطة كاملة وتسعين رباعية من الفصول: ربيعية عربية أو اشتراكية، خريفية أو دكتاتورية، صيفية أو طلابية، في مظاهرات حارقة، شتائية، أو بين المنافي والأقبية والخذلان!
مغربيا أو عربيا أو أمميا ..لكنه دوما وطنيا!
لكي ينعم بموت بسيط في مستشفي العاصمة، كما لو أنه لم يغادر أبدا براءته، درس في أن الشجاعة تحمي من مهانات الخوف، درس رجل خاض كل حروب المغرب الحديث: حروب الرصاص والجمر، وحروب الصحراء والجبل، حروب المنافي والسياسة، لكنه مات في سرير ظل يهرب منه عقودا تسعة!
محمد بنسعيد بالنسبة لجيلنا خاض كل الحروب، حروب .. كثيرة لكنه لم يخض أبدا حرب الأجيال!!
لطالما اختار الشباب، وفي المنعطف من حياته والتزامه، لإيمانه بأن حرارته هي الدليل الوحيد علي سلامته المرجعية : في الستينيات كما في بداية السبعينيات مع شباب التمرد الماركسي اللينيني بمشروعه الوطني، وانحاز إلى الشباب المتمرد في الغابات وفي الكليات وفي المنابر وفي الأمسيات.. في المعامل وفي الثانويات!
وفي الألفية الثالثة عاد الأب من جديد إلى شباب وطنه، الذي حمله على الأكتاف .. دليلا على سلامة الاختيار!
في سيرته ما يستوي الباحث عن شجاعة الفرد في مواجهة كليانية السلطة، كما جيل من الوطنيين أمثاله، وفيها ما يستهوي الحالم باستماتة الروح في مقارعة الجبروت، مثل المناضلين التقدميين أمثاله، فيها ما يثير الذهول من رجل كهل، يشرف على وداعة المنتصف ويسائل مغرب السلطة المتجبرة في تسعينيات القرن الماضي من على عتبة زنازين لا ترى، واسم هامس يتردد في الأقبية أو في السفارات :تازمامارت!
وفي سيرته، بتنا نعرف الآن الكثير عن محمد بنسعد أيت يدر لأن الذاكرة امتلكت من المهارة ما يجعلها متقدة، ومن النزاهة ما يجعلها طرية في نقل ما جرى، ظلت مسنودة بفعل يومي في النضال السياسي حافظ لها على رونقها، ودقتها. نحن نعرف المغرب أفضل، من خلال ذاكرته.
ولعلي لن أجانب الصواب لو قلت إن ذاكرته يجب أن تعلن تراثا وطنيا، دليلا ديبلوماسيا في معارك المغرب الحديث، لا سيما في حربه الطويلة من أجل الصحراء.. من خلال فصولها الموثقة والمسجلة بدقة من يملك دينا قديما تجاه التاريخ، نعثر على وصول حركة التحرير الوطنية إلى تحرير الساقية الحمراء، ونعثر فيها على تفاصيل المعارك قرب العيون عاصمة الصحراء، ونعرف الكثير من التفاصيل، وإن كان بعضها يلفه الضباب والحيرة والألم كذلك!
هي ذاكرة منذورة لكي تكون في خانة فريدة، بالنسبة لشعب تقوم معركته من أجل وجوده واستكمال وحدته على الذاكرات الحية …
ذاكرة بمثابة مصنف ديبلوماسي وعسكري، متقد ومتوقد، لربما كان يلزم جيلا كاملا لكي تجتمع وتجمع، ومع اختفائه تبدو قوة ذاكرة بكاملها عرضة الاختفاء وفي ذلك قد يضيع صوت حي للتحرير والصحراء..
ذاكرتي الشخصية تحتفظ لي معه بمكالمات عن … عمر دهكون ومن معه!
كان ذلك في صيف 2001، وكان تدوين سيرة الثوريين الاتحاديين الذين تم إعدامهم في نونبر 1973 وعلى رأسهم عمر دهكون، قد قادني إليه.
أول من حدث دهكون عن الثورة المسلحة؟
وقتها ورد اسم بنسعيد أيت يدر الشتوكي، كأول اسم سيحدِّث دهكون عن الكفاح المسلح!
فقد توجه دهكون عمر إلى الجزائر أول مرة في أواخر 1965 بل آخر أحداثها الشهيرة، وكان حينها مجرد مناضل ثوري في صفوف طلبة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قبل مجيء رفاقه، مع فارق بسيط أنه لم يعد طالبا منذ يوليوز 64· وبالجزائر التقى بمحمد بنسعيد الشتوكي المقاوم وهناك حدثه عن الوضع الذي يوجد عليه المغرب، وهناك «تحدث لي عن أحداث· 1965 الطلابية «ـ كما صرح عمر دهكون يوم 25 يونيو 1973 أمام المحكمة العسكرية واتضحت وحدة الرؤية وانسجام الأفكار بين مقاوم عنيد تربى في عراك جيش التحرير والمقاومة، وطالب شاب كان عمره لا يتجاوز عشرين ربيعا عندما غادر أبناء «إيريك لوبون» تراب المغرب الأقصى·
وقال عمر دهكون: «عرض علي المقاوم الشتوكي ( أيت يدر) الانخراط في منظمة سرية للقيام بأعمال مسلحة لضرب الخونة والأيادي الخفية التي تقوم بتهريب الأموال إلى الخارج، ومعها أياد أجنبية وصهيونية»· مضيفا « لم أقبل في بداية الأمر···»·
وبينما الشهيد دهكون في الجزائر في تلك السنة القائظة من تاريخ المغرب المعاصر، علم بالعفو الصادر في حق الإخوة أعضاء المقاومة، كما يسمى هو نفسه ذلك، وحينها طلب منه الشتوكي بنسعيد الاتصال بالبصري بعد عودته إلى المغرب، وكذلك كان، خصوصا وأن عمر دهكون رحمه الله كان عضوا نشيطا في الشبيبة من 65 إلى 30 يوليوز 1966، تاريخ الانعطافة الكبرى· وفي المقر، وجدت الفقيه البصري، يضيف عمر دهكون لقاضي جلسة يونيو 73، السيد محمد عبد الرحمان اللعبي، لكن الفقيه طلب مني اللقاء خارج مقر الحزب· وعند اللقاء بأحد شواطئ الدار البيضاء، طرح الفقيه السؤال التالي على عمر دهكون:
ـ «يا عمر، ما رأيك في أن شخصا مسؤولا في الحكومة المغربية شارك في اغتيال زعيم مغربي وله يد طولى في هذا الاغتيال؟».
لزم عمر دهكون الصمت، ثم فكر وقدّر، ثم فكر وقدّر، وأدرك أن الأمر يتعلق بالمهدي بنبركة، أما الشخص الثاني، فهو الجنرال أوفقير· فكان جوابه حاسما، لا تردد فيه: «إذا ثبت أن هذه الشخصية وراء الاغتيال لابد أن تجتمع محكمة شعبية لمحاكمته»·
في نفس السنة 66 ، وبالضبط في اليوم الرابع والعشرين من دجنبر، وصلت عمر دهكون رسالة من وهران بالغرب الجزائري، أرسلها صديقه الطالب أحمد تفسكا، ولعل موضوعها كان هو الدعوة إلى القيام بزيارة في إطار الانخراط العملي والفعلي، تنظيميا وسيكولوجيا في المنظمة السرية، وهناك «اتصلت بمحمد بنسعيد الشتوكي ( أيت يدر) والحسين الخطاب ـ يقول عمر دهكون أمام المحكمة ـ وتدارسنا قضية اختيار بعض العناصر للتدريب العسكري»·
طبعا أخبرت الراحل بن سعيد بمضمون ما قرأت وطلبت شهادته، وارتأى حينها أن نلتقي من أجل وضع الإطار. وقد حدثني عن ظروف الثورة المنفية، وعن لحظة دقيقة هي لحظة القرار بالدخول إلى المغرب والتسلل بالسلاح للقيام بها وترحيلها إلى الداخل.
روى لي الفقيد رحمه الله أنه طلب لقاء عمر دهكون، وربما الراحل محمود بنونة، في باريس. وأن اللقاء لم يتم بسبب تأخير في التوقيت، وبعد ذلك وصلت الأنباء بأن الثوار دخلوا التراب الوطني.
وفي تعليق الراحل، ولعلها المرة الأولى التي أقر فيهابهذا الأمر قال بأنه لم يكن موافقا على التوقيت، بل ذهب إلى حد القول بأنه كان يشارك الشهيد المهدي تحليله حول القوة التي تتمتع بها الملكية بالرغم من وفاة محمد الخامس، الملك الوطني المقدس، وبين مغامرة الدخول معها في حرب ستكون وخيمة العواقب وبأن الراديكالية يجب ألا تتعدى المواقف والتعبيرات و…إلخ إلخ.
كان له وعي دقيق حينها بميزان القوة!
المرة الثانية، التي سنحت لي بأن أجاوره لمدة أطول كانت عند تقديم كتابه، عبر بوابة عنوان: تاريخ متفرد!
ومما قرأت أمامه، بمسرح محمد السادس بالدار البيضاء «ينتمي محمد بن سعيد أيت يدر، إلى ثلة من كبار العمل الوطني، السياسي، النضالي المغربي، الذين شكلوا استثناء كبيرا في القرن الذي عبروه بمجد، حيث كانت الصحافة مختبر هويتهم النضالية، وأيضا إقامتهم الدائمة لمحاربة السياسة، أذكر محمد بن عبد الكريم الخطابي، مراسلا وصحفيا في يومية «تلغراف الريف».
أذكر المهدي بن بركة، وجريدة العلم، أذكر لفقيه البصري، بوعبيد، اليوسفي، علي يعتة. وكلهم قادوا حركات سياسية تقدمية كانت الصحافة في صلب تكوينهم ورسالتهم….
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 07/02/2024