فاتح ماي على ضوء الوضع الاعتباري الجديد للدولة

عبد الحميد جماهري
منح محمد السادس للدولة وضعا اعتباريا جديدا، وضع ليس رمزيا ولا معنويا، بل مكانة جديدة في عمق المغرب الذي يتشيد.. وذلك بإعادة تعريفها ترابيا: الجهوية، وتغيير طبيعتها وظيفيا : توازن الهامش والمركز، واجتماعيا: العمل على إنشاء الدولة الاجتماعية الواضحة المعالم في الهنا والآن.
وبتعريفها كدولة اجتماعية تباشر تنزيل مطالب المغاربة والحرص على اعتبارها جسدا من تشكلها ، ينقل الدولة من وضعية الطرف المتلقي للمطابقة الصاعدة من المجتمع ، وبالتالي تدبير ما يرتبط بها من احتجاجات قد يصل إلى مسار العنف المشروع، إلى وضع الطرف المنتج لوظيفة اجتماعية داخل المجتمع، بل والحرص على تحقيقها بتفوق أدبي وأخلاقي أحيانا على أطراف أخرى في المجتمع ذاته. وبالتالي يمكننا الزعم، بدون مخاوف كثيرة من المجازفة ، بأن محمد السادس منح الدولة وضعا اعتباريا منتجا ويفوق التناحرات السياسية المعتادة ، بل يمكن الذهاب الى أنه تم اقتناع واتفاق الجميع بدون شرط تقريبا على مقترح الوضع الاعتباري الحالي.. للدولة باعتبارها دولة اجتماعية.
ولقد كانت لحظة إنتاج النموذج التنموي الجديد، بهذا المعنى، لحظة المصادقة الجماعية على هذا الوضع الاعتباري (المكانة) التي منحها الملك (باعتباره هو من طلب هذا النموذج ودعا الى طريقة إنتاجه وإقراره وتنفيذه) عبر مؤسسة الحوار الاجتماعي ومكانته في بناء السياق الجديد، وتبني الدولة لخيار الإصلاح الاجتماعي العميق من قبيل التغطية الاجتماعية..
1 – هناك موضوع إجباري، يعود رسميا في مناشدات فاتح ماي لهذه السنة، وهو الحوار الاجتماعي والاتفاقيات المنبثقة عنه، ثم التزام الأطراف به وكلفته المادية. وبالنظر الى كلفة الاتفاقات الاجتماعية المتفرعة عن حوارات الحكومة والنقابات على الأقل منذ تبني الدستور الجديد، نلمس بالتحديد أن ما خصصته الدولة من مبالغ للتغطية الاجتماعية (51 مليار درهم ) يبلغ ضعف كل ما كلفه الحوار الاجتماعي واتفاقياته منذ أبريل 2011! (9 مليار درهم + 14 مليار درهم )، وهو ما يضع طبيعة الالتزام الاجتماعي للأطراف الموقعة على الاتفاقيات، ثم الطرف الآخر، الأكثر تأثيرا في أحوال المعيش اليومي لقطاعات واسعة ليست بالضرورة المدرجة في أسلاك الوظيفة العمومية أو القطاع الخاص أو المهن الحرة!!
وهو ما يعيد طرح الدور الذي صار على الهيئات النقابية التفكير فيه من زاوية فعالية مقترحاتها في إنشاء الدولة الاجتماعية (الحكومة بالضرورة ملزمة بتنفيذ التزام الدولة إجباريا وأخلاقيا).. وعلى ضوء هذه المساهمة، يتم النظر إلى «فاعلية « من يقوم بالتنفيذ وليس هويته المعلنة..
ليست هناك أية مفاجأة، ولو احتفالية ولو مناسباتية وفرجوية..
2 – إثارة قضية التكلفة ومقارنتها لا يمكن أن ترفض مقاربة «مالية» مصرفية صرفة، بل لم يعد من المجدي الاكتفاء بالإطار المادي الصرف في القطاعات العمومية: أي الترقيات والأجور، وعلى أهميتها قد تصبح الطرف البسيط من المعادلة في قطاع مثل التعليم مثلا، إذا ما نحن وضعناه على محك المطلوب من التعليم والتربية في بلاد يشكل فيها التعليم والمدرسة وسيلة التصحيح الضروري للخصاص الاجتماعي، ووسيلة الارتقاء والاندماج في نسيج المجتمع المنتج والفاعل (البرامج التي تتطلب مواقف سياسية ومواقف فكرية، وتحدد الدور السياسي لرجال ونساء التعليم كقوة فعلية يجب أن تعي نفسها كذلك). ولن يتأتى ذلك إلا بتغيير الوضع الاعتباري ـ المكانة داخل المجتمع وبالتكوين المستمر..
ومن الصدف الجميلة أن فاتح ماي تزامن مع تدشين مستشفى طنجة، وما يثيره من رجوع الى الأسبقيات والثوابت التي أجمعت عليها القوة السياسية والاجتماعية بخصوص موضوع الصحة.. أي توفير الحماية الصحية للمواطنين والمواطنات، مراجعة النظام الصحي، والاستمرار في الصناعة الصيدلانية..
-3 إن القوى النقابية جزء من الجمهور الذي يتوجه إليه النموذج الذي طلبه الملك.. وهذا يعني بأنها معنية أكثر بتطوير المقاربة الاجتماعية لفعلها المدني بناء على ما يتحقق ويتهيكل.
لقد قطعت البلاد أشواطا في القضية الاجتماعية (2010 وانطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ودخول الجيل الثالث، تغيير المقاربة الإنسانية الى مقاربة إدماجية…) حتى صار من الطبيعي القول والكتابة بأن القضية الاجتماعية «صارت قضية دولة»، بل هناك من اعتبرها قضية حكم..
وفي عهد الملك محمد السادس صار الشعار «دولة اجتماعية قوية مقابل مجتمع قوي».. يحيل على البعد السياسي، بما في ذلك دولة مؤسسات وقانون وإدارة وأحزاب وبرلمان وقضاء وحكومة.. ودولة تقديم الحساب أمام المواطنين، الى دولة تبدع في المعالجة العميقة للهشاشات الموجودة..ليس بالاقتصار على الفقراء الرسميين (5 الى 7 ملايين مغربي) بل بالأخذ بعين الاعتبار أنواع الضعف المجتمعي التي لا تغطيها المقاربة المالية الصرف مثل الولوج الى العلاج والتعليم والسكن اللائق.
طبعا هناك سؤال جواب في الوقت ذاته: جزء من وعي الدولة، هو وعي سيادي ونابع من طبيعة القائم عليها «ومنها قناعاته الاجتماعية والمعرفية، وجسد آخر انطلاقا من القدرة على التعامل مع الوضع الاجتماعي بدون السقوط في القطيعة. وقد تساءل الكثيرون دوما ، في عز ربيع 2011، كيف أن النظام استطاع تدبير الاختناق السياسي والاجتماعي والحسابات الإقليمية ، وهذا السؤال يفرض علينا أن نجزم بأن ماعشناه سلبا أو إيجابا يدفعنا كنقابيين وفاعلين سياسيين مرتبطين بالحركة النقابية إلى مغادرة قاعة الراحة التي جعلناها وطنا للتفكير!
فهناك عملية تحول عميقة، بعضها قانوني تشريعي، وبعضها مجتمعي فكري عميق. لم يعد يطمئن للتفكير المستمر للعقل النقابي المغربي: علينا التفكير في طبيعة دور الدولة الجديدة وتأثيره على فعالية العمل النقابي؟
علينا التفكير في هذا الدور وتأثيره على فعالية الوسائط الاجتماعية برمتها؟ ودور الحكومة نفسها التي تقود في الرهان الحالي كما لو أنها تواجه تعبيرات الشارع والمناخ الناقم فيه، «بشرعية انتخابية مؤسساتية على قطيعة مع الأوضاع المعيشية…
ما سميناه جدلا بالوضع الاعتباري الجديد للدولة، هو تفريع من كل دستوري يتم الإعلان عنه بمسمى الملكية الاجتماعية، وهو يسير نحو الترسيخ والوجود النهائي، في المقابل ما زالت أوضاع التعبيرات الاجتماعية بالرغم من الضرورات الكثيرة لها، لم ترق الى «تحيين اجتماعي» مدني ومؤسسات تسمح بآفاق جديدة: وهو عمل يجب أن يفضي إلى ميلاد قوة اجتماعية معبر عنها نقابيا بشكل موحد أو على الأقل منسق …
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 01/05/2023