فرنسا والمغرب والجزائر: الثابت والمتغير في العلاقات الثلاثية عند الدولة الفرنسية
عبد الحميد جماهري
في المناخ العام، الذي يسير مع الانتظارات التي خلقتها الانتخابات التشريعية الفرنسية السابقة لأوانها، تعود العلاقة مع باريس، على ضوء العلاقة بينها وبين الجزائر إلى الواجهة، ومن الحتمي أن الأسئلة حول الشكل الذي ستتخذه الأمور في المستقبل، على ضوء النتائج، وفوز أو عدم فوز اليمين المتطرف، ومواقفه من القضايا المصيرية للمغرب، أن تطغى على غيرها،
من هنا نهتم برؤية العروي لثبات العلاقة، بغض النظر عن الوجه السياسي الذي سيمثل الديبلوماسية في البلاد بعد الاقتراع، المؤرخ عبد لله العروي ناقش الأصل في تدوينته ليوم الثلاثاء 11 أكتوبر 2022 التي ضمنها كتابه «دفاتر كوفيد».
يقول: «لقد صار من البدهي شيئا فشيئا أن المغاربة ارتكبوا خطأ جسيما على كل المستويات، في تحليل العلاقة الفرنسية – الجزائرية، لطالما اعتقدنا بأنه بالنسبة لفرنسا فإن الدول الثلاث لإفريقيا الشمالية الفرنسية، ببلدانها الثلاثة، لديها نفس الأهمية، لقد اعتقدنا دوما أن هذا الجزء من القارة يسكنه نفس الشعب، وهم يعرفون أن الحركات الوطنية كان لها مكتب موحد في القاهرة، وأن هاته الحركات الوطنية نفسها وقعت من بعد ميثاق طنجة، وأن اتحاد المغرب العربي رأى النور في مراكش بالرغم من الخلاف حول الصحراء … الخ ولهذه الأسباب كلها يعتقدون بأن الدول الأجنبية، ومن بينها فرنسا، لا يمكن إلا أن يكون لها نفس الشعور وأن تمارس سياسة متمايزة إزاء كل واحدة من هاته الدول الثلاث وهناك عناصر أخرى موضوعية كما هو حال اللغة الفرنسية في التربية والإدارة، وكذا العدد المهم من الزيجات المختلطة، ثم مزدوجي الجنسية من بعد في صفوف النخب الثقافية والسياسية للبلدان الثلاثة قد قوت من وهم الانسجام في المنطقة، باعتباره عنصرا سيقود بالضرورة ويرشد السياسة في كل البلدان، منها فرنسا في المنطقة.
بالنسبة للعروي تجب العودة إلى الاتفاقيات التي أبرمتها الجزائر مع فرنسا من أجل الاستقلال وهي اتفاقات «إيفيان» والاتفاقات التي يتحدث عنها هي نتائج مفاوضات طويلة جرت في الثامن عشر من مارس عام 1962 بين القادة الوطنيين الجزائريين من الحكومة الجزائرية المؤقتة وهي عضو أساسي في«جبهة التحرير الوطني الجزائرية» وبين الموفد الفرنسي برئاسة لويس جوكس ووزير الشؤون الجزائرية في عهد الجنرال ديغول، سمحت هذه الاتفاقيات بإعلان وقف إطلاق النار ووضع حد لحرب الجزائر. وكان رضا مالك هو المتحدث باسم الطرف الجزائري في هذه الاتفاقيات، بدأت المفاوضات رسميا اعتبارا من 20 ماي في العام 1961 واستمرت لمدة عام تخللها وقف للمفاوضات، وتعليق واستعادة لها ومفاوضات سرية، جرت المفاوضات في مدينة إيفيان الفرنسية عند الحدود مع سويسرا، حيث كان يقيم الوفد الجزائري المفاوض والذي كان يتشكل من شخصيات سياسية بارزة، مثل كريم بلقاسم وسعد دحلب ومحمد الصديق بن يحيى ولخضر بن طوبال ورضا مالك ومحمد يزيد وعمار بن عودة والصغير مصطفاي، وفرض الحوار السياسي نفسه على المفاوضين الجزائريين والفرنسيين بعد إدراك الدولة الفرنسية آنذاك، وعلى رأسها الجنرال شارل ديغول، فشل الحل العسكري في الجزائر.
يقول العروي بخصوصها لم يحسن المغاربة قراءة اتفاقيات إيفيان، اعتقادا بأنها قد صارت متجاوزة بفعل الهجرة الشاملة للأقدام السوداء، أي الأوروبيون الذين يقيمون في الجزائر إبان الاستعمار وبين العروي أن هاته الاتفاقيات ظلت تطبق وأن الجزائريين هم الذين أفرغوها من مضامينها وقتها بناء على هذا، بدأ الفرنسيون، لكي يُخضعوا الجزائريين ويجعلونهم أكثر امتثالا، يتظاهرون بالتقرب من المغاربة.
والحال أنهم لا ينظرون إلا إلى الجزائر وكل الرؤساء، سواء من اليمين أو من اليسار، راودهم نفس الحلم في العودة إلى مستعمرتهم القديمة ولو أن الجزائريين كانوا أكثر تعاونا وميلا إلى المصالحة مثلنا، لا شك في أنهم سيجلبون مزيدا من السياح الفرنسيين، ومزيدا من رجال الأعمال والمتقاعدين المقيمين … الخ، ولعل «رينو» و«بوجو» تكون كذلك شرعت في بناء معاملها في وهران وعنابة قبل أن تفكر في طنجة والقنيطرة لم يرد الجزائريون ذلك، لأنهم كانوا يخشون من أن يجدوا أنفسهم في ظرف سنين قليلة في نفس الوضع السابق عن 1962، بتواجد كثيف للسكان الذين غادروا البلاد والذين سيجعلون منها جنوب إفريقيا أخرى وأقول جنوب إفريقيا أخرى، وقد كان ذلك، على كل حال، ما كان يتصوره بول رينو الأب الروحي السياسي للجنرال ديغول، ومن المحتمل جدا أن هذا الأخير كانت تساوره هاته الفكرة عندما تصور استقلال البلاد ومن يمكنه أن يؤكد، بدون تحفظ، بأن كل فرنسي لم يكن في العمق يراوده هذا الحلم؟.
في تدوينته ليوم الثلاثاء 11 أكتوبر 2022 ، يقول العروي إن المغاربة يضغطون على فرنسا، أو يهددون بالضغط عليها لإجبارها على أن تخطو الخطوات التي قامت بها أمريكا في ما يخص قضية الصحراء، ويلوحون بأنه إذا تمت الاستجابة لهم، سيعود الزبناء الأوفياء لها كما كانوا في السابق.
وبالنسبة للعروي فالمغاربة يضيعون من جديد، كما كان الأمر مع فرانسوا هولاند وميتران، فرصة أخرى للتحرر من الوصاية الثقافية الفرنسية، وفي نظره دوما، فالمغاربة لا يريدون أن يدركوا بأن الأمر يتعلق بمشكلة استراتيجية، وأن القضية ليست مجرد قضية تعاطف أو ألفة معينة، بل بالفعالية وحدها، ولعله يتحدث بالفعل عن المسألة اللغوية ذلك لأنه يعطي مثلا بأوربا الحالية، حيث الناس ينتظرون أن يتحدث اليونانيون والإيطاليون واليابانيون والبلجيكيون في بروكسيل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، بالفرنسية، لكنهم يتحدثون إلى زملائهم وإلى الصحافيين باللغة الإنجليزية، وذلك من أجل النجاعة، ومن ذلك يخلص العروي إلى القول بأنه ليس على الحكومة أن تقول للمغاربة ما هي اللغة التي يجب تعلمها أولا، بل إعطاؤهم حرية الاختيار مع مدهم بالوسائل التي تسمح لهم بتحقيق رغباتهم، وذلك عبر تكوين العدد المكافئ من الاساتذة المطلوبين، وهنا لن يعود المشكل مشكلة سياسة خارجية بل مشاكل سياسة داخلية، ومن هنا يرى العروي أنه من الحكمة ألا نطالب فرنسا بأي شيء وأن ننتظر ما ستقرره، ومن ثمة اتخاذ القرار لتطبيق سياسة مستقلة عن أية إحالة على القرار المتخذ من طرف فرنسا.
وفي تقدير المؤرخ عبد لله العروي، فإن المغاربة، نسوا معطى بسيطا مفاده أنه بالنسبة للحكومة الفرنسية، فإنها تعتبر شؤون المغرب من اختصاص الكي ضورسيه Quai d›Orsay وزارة الخارجية فيما شؤون الجزائر فهي تعود إلى ساحة بوفوPlace Beavau وزارة الداخلية، وهو أمر كان يدرّس في المدارس، وصار من الصع، بعد ذلك، محوه من الأذهان حسب العروي دوما ومن نتائج هذه التحاليل أن فرنسا مجبرة على أن تكون لها سياسة خاصة إزاء الجزائر، وأن على المغاربة، من جانبهم، أن يأخذوا علما بذلك ويتصرفوا تبعا له.
ولعل النقطة الأساسية في هذا القدر الجزائري بالنسبة لفرنسا، هو خوفها من الفوضى في الجزائر والتدفق الكبير للمهاجرين نحو أوروبا. وفي ذلك يقيم المؤرخ قياسا بين ليبيا والجزائر، معتبرا أن فرنسا ارتكبت خطأ فادحا في ليبيا، ولعل ذلك كان خلال إسقاط القذافي وعدم منع الفوضى والسيبة في ما بعده وإيطاليا هي التي تعاني من ذلك اليوم. أما في الجزائر، فإن الوضع مختلف والفرنسيون الذي سبق لهم أن تعبأوا لفائدة هجرات الفيتناميين عبر البحر، لا يمكنهم إلا أن يتحركوا بالنسبة لبلاد قريبة، ومن آثار ذلك أنه لن يتحقق الكابوس الذي كان يفزع ديغول، وكان وراء تفاديه ومقصده في ذلك وجود دولة دومينو، أي دولة مستقلة ولكن داخل فرنسا
من مصلحتنا أن تركز فرنسا انتباهها على الجزائر، لأننا وقتها سنكون مجبرين على النظر الى مكان آخر.
ويضيف العروي، في مكان آخر من تحليل العلاقة الفرنسية – المغربية، ص212 التدوينة المؤرخة ب13 دجنبر 2022وهو يجزم بأنه ليس صحيحا أن فرنسا متوازنة تحمل بين يديها ميزانا متساويا بين المغرب والجزائر. فالفرنسيون، بالنسبة للعروي، يدركون جيدا أن كل الحجج والمبررات التي يستعملها الجزائريون هي نفس المبررات والحجج التي رفعوها هم ضد الإسبانيين. وفي العلاقة مع المغرب، يعود العروي إلى التأكيد على أنه لا يمكن للفرنسيين أن تكون لهم زاوية للنظر إلا تلك التي كانت لهم عندما كانوا يفكرون بأن وجودهم في الجزائر هو وجود في بلادهم وإلى الأبد، وأن المغرب هو منطقة للتوسع.
يختم العروي تحليله بالقول: «بطبيعة الحال، لقد كان المغرب يعرف باستمرار ذلك، كما أنه كان عليه أن يواجه الأحابيل الإسبانية والمؤامرات . وبما أنه لم يكن أمامه إمكانية أن يعول على مساعدة إنجلترا وألمانيا، القوتان الرئيسيتان المعاديتان لفرنسا، فقد تظاهر فعلا بالسذاجة والإيمان بصدق الصداقة الفرنسية ولعله فكر بأنه من الأفضل أن يكون نصف حليف على ألا يكون له حليف بالمرة ويخلص العروي إلى القول: بأن هذا المعطى تغير الآن، على الأقل جزئيا، ولهذا هناك أزمة، وفي الأمر ولا شك إحالة على الوضع المغربي بعد صطفاف أمريكا مع حقه في الصحراء وتبعتا إسبانيا ودول أخرى.
وهذا الموضوع، كما نرى، قد حرر المغرب، ولكنه منع فرنسا من وسيلة ضغط وهو ما يختم به العروي تدوينته عندما يكتب «هناك أزمة لأن فرنسا فقدت وسيلة ضغط قوية، ليس لدى المغرب أو إزاءه، بل إزاء الجزائر لأن الجزائر هي عقدتها وهوسها، والمغرب يعرف ذلك جيدا.
ومن اللحظات القوية، تلك التي يتحدث فيها عن المواجهة بين إمانويل ماكرون ومارين لوبين في الانتخابات الرئاسية السابقة، والتي تشابه ما نعيشه اليوم في المقابلة بين اليمين الماروني واليمين المتطرف حاليا وهو ما يقودنا إلى الحديث عن تصريحات ماكرون، في سياق آخر غير المواجهة، بخصوص الجزائر.
يقول العروي إن الرئيس الفرنسي، وضع نفسه في وضع المؤرخ ارتجل صفة مؤرخ وهو ما يعد أمرا غريبا في حد ذاته لكنه يعود إلى ما قاله ماكرون من حيث إن النظام السياسي العسكري الجزائري بنى نفسه على ريع الذاكرة،وأنه أعاد كتابة التاريخ ومأسسة الحقد على فرنسا، وهو ما لا يشكل النزوع العام للسكان حسب رأيه وقال أيضا إن الإجراءات الخاصة بالفيزا كانت تستهدف بالأساس هذه القيادة ماكرون أيضا نصّب نفسه مؤرخا وقال بأن الجزائر لم تكن أبدا أمة قبل الاستعمار الفرنسي، والذي جاء بعد استعمارات أخرى،ومنها الاستعمار التركي الذي لم يتعرض للنقد كما يعلن هو مندهشا يعتبر العروي أن ماكرون لم يختلق كل هذا، بل إن هذا ما يكون قد احتفظ به من مناقشاته مع شخص مثل «بنجامين سطورا» الذي يعد خبيرا في الجزائر الفرنسية.
يقول العروي «هذا الأمر يسعد المغاربة الذين يفكرون في نفس الشيء بالضبط،والسؤال هو: لماذا يقوم ماكرون بهذا؟ وهل هكذا يجب أن يتحدث رئيس دولة بخصوص دولة أخرى؟
وفي معرض الجواب يورد العروي الإجابات التي يقدمها الآخرون.البعض يقول إنه ثأر الضعفاء، أي أن ماكرون تعرض للخيانة من طرف الأنجلوساكسونيين، ولعلها إشارة إلى فشل الصفقة مع أستراليا حول الغواصات النووية التي تخلت عنها أستراليا ومالت فيها الى الإنجليز والأمريكان، وكرد له إزاء إهانة المغاربيين علاوة على ذلك، يشعر ماكرون بأنه تعرض للخيانة من طرف ملك المغرب قضية بيغاسوس إذا تأكد الأمر وأثار غضبه الجزائريون وخيب ظنه التونسيون. وفي قضية بيغاسوس كتب العروي، قبل أن تتطور الأشياء إلى تبرئة المغرب، لا في البرلمان الأوربي ولا في إسبانيا، لا سيما وأن البرلمان الأوربي هو ساحة المعركة التي خاض فيها ماكرون معركته ضد قضية التجسس، المتهم فيها المغرب.
ويواصل العروي القول: «مع ذلك، سواء كانت بيغاسوس موجودة أو غير موجودة، فإن المغرب يواصل انزياحه نحو أمريكا، والجزائريون يشترطون تسليمهم المعارضين اللاجئين كما حصلوا على ذلك من الإسبانيين والأتراك والبوسنيون لم يفوا بوعودهم في الجمع بين الاستقرار والديمقراطية وهذا معناه ألا شيء منها هذا لصالح فرنسا. ومن خلاصات ذلك أن فرنسا لم تعد تدري كيف تتصرف في منطقة كانت تعتقد بأنها تعرفهاـ ولكن التطور السريع يوشوش على توجهاتها ويربك تصرفاتها.
ولعد خطابات الملك توضح هاته التحولات وعدم التفاعل معها من طرف فرنسا، وبالخصوص خطاب غشت 2021، والذي شدد فه المغرب على التحولات التي تطبع الديبلوماسية المغربية إزاء الحلفاء التقليديين، ومنها قوله «هناك من يقول بأن المغرب يتعرض لهذه الهجمات، بسبب تغيير توجهه السياسي والاستراتيجي، وطريقة تعامله مع بعض القضايا الدبلوماسية، في نفس الوقت هذا غير صحيح المغرب تغير فعلا، ولكن ليس كما يريدون؛ لأنه لا يقبل أن يتم المس بمصالحه العليا وفي نفس الوقت، يحرص على إقامة علاقات قوية، بناءة ومتوازنة، خاصة مع دول الجوار.
ويدعو العروي الجزائريين إلى عدم إبداء القلق أو الشعور بأنهم مسوا في عواطفهم أو جرحهم ماكرون.
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 29/06/2024