في النضج الاستراتيجي المغربي والسمو الأخلاقي

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
ونحن على بعد أيام قليلة فقط من الحدث الوطني الكبير، عيد العرش وخطابه الاستراتيجي، يحسن بنا أن نتأمل موقع المغرب كبلد ناضج استراتيجيا، يُوفِّقه هذا النضج، الذي يجمع بين التاريخ والحضارة، والمستقبل، في تكريس نفسه كدولة مركزية في النظام الدولي وعلى ساحة العالم، بالرغم من تقلباته.. وهذا النضج ليس ماديا وحده ولا اقتصاديا وعلائقيا بل تلعب فيه القيم دورا مركزيا، قد يتعارف العالم على تسميتها بالقوة الناعمة لكنها منظومة سمو أخلاقي لها مقابلها من حيث الوزن الجيوسياسي الاستراتيجي¡ ومن حيث قوتُها داخل صناعة الموقع الدولي..
لننتبه إلى الطارئ والراهن الآن بالرغم من عبورهما، ونقول إن مستجدات الحياة السياسية الدولية تثبت في كل منعطف وفي كل ظروف أزمة، أن المغرب لا يملك النضج الاستراتيجي
maturité stratégique
فقط، بل هو يضاعفه بالرشد السياسي ويرادفه بالسمو الأخلاقي ..
نعيش اليوم، مع جزء من المتخلفين الأخلاقيين والسياسيين، في إسبانيا وفي من يدعمهم ماليا ولوجيستيا من دولة الجوار، لحظة انهيار سافلة، وهي في الوقت ذاته لحظة فارقة، للتمييز بين دولة، تحصِّن نفسها بتاريخها الحضاري العريق، وتجدد لنفسها منظومتها الأخلاقية باستمرار، وبين الذين يبحثون في قمامة التاريخ ـ حيث يقيمون مزهوين ومنتشين بانحطاطهم ـ عن القاموس الذي يحاربون به المغرب.
نحن نتابع الانحطاط المعبر عنه في شوارع مدريد الطويلة، طول لسان الأبواق الحاقدة، عن درجة التدني التي تصلها «الجبهة العمالية»، لصاحبها «الجيش الوطني الشعبي» بالجزائر وساكنه بالمرادية…
العالم، وليس المغاربة وحدهم، يشعرون بالفارق في درجة السلوك السياسي، مع الأفراد كما مع الجماعات والدول..
والعالم كله يتابع كيف تدل لحظات العنف، لغويا أو سياسيا أو اقتصاديا، على أن المغرب، الذي يدافع عن مصالحه بشراسة، لا يتخلى عن وسائله السامية في تدبير هذه المصالح.
فهو يستطيع أن يدافع عن المصالح بدون التخلي عن المبادئ والعكس صحيح.
ولعل من المتفق عليه، حتى من طرف ألد خصوم المغرب ومحمد السادس، أن القوة الإقليمية التي يقودها هو شخصيا صارت معطىً لا غبار عليها..
كما هي مهارة الملك السياسية الشخصية في تدبير الأزمات، بقوة ولين¡ وفي الوقت ذاته، بالوضوح الصارم وبالاحترام معا…
ولعل العبارة التي استعملتها الصحيفة الفرنسية لونوفيل ايكونوميست «arbitre des élégances, elegantiae arbiter» تحيل على أسلوب الحكم كما يراه الآخر، وهو هنا الإعلام الفرنسي، باعتبار أن الملك المغربي فرض سلطته الجيوسياسية بواسطة تميزه واختياراته السليمة، و»ذوقه» السليم في ضبط العلاقة بين أوروبا وإفريقيا، وقد كانت فترة 24 سنة من الحكم كافية كي يضع الملك بصمة هوية وطابعا خاصا لريادة المغرب الحديث، والانتقال به إلى مصاف القوة الإقليمية، التي لا بد منها لفك شيفرات العلاقة بين ثلاثة فضاءات متلازمة ومتجاورة على الأقل، الحوض المتوسطي والشرق الأوسط، إفريقيا وأوروبا.
وفي برقية واحدة أرسلها الملك إلى جو بادين، تخليد لهذا النضج الاستراتيجي عندما أعرب عاهل البلاد في برقية التهنئة التي بعث بها إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بمناسبة ذكرى استقلال بلاده، عن بالغ الارتياح للخطى الثابتة التي تسير عليها علاقات الصداقة والتعاون بين البلدين.
وأكد جلالة الملك أن هاته العلاقات المتجذرة في التاريخ والقائمة على شراكة استراتيجية قوية متعددة الأبعاد، وعلى روابط إنسانية متينة، تجسد التزام البلدين الوطيد بالقيم الكونية السامية وانخراطهما الفعال في صون الأمن والاستقرار الدوليين. هذا دليل من عشرات الأدلة، ميزت الفترة ما بين الخطابين..
لكن في النضج السياسي والسمو الأخلاقي، ما زالت وصايا الملك إلى شعبه هي دليله في التعامل مع الآخرين، كانوا جوارا مباشرا أو غير مباشر، وما زالت سلوكات الرُّشد، تذكر بالسمو الأخلاقي، عن الحرص على التأكيد على ما هو عميق واستراتيجي وثابت، بعيدا عن الانفعالات العابرة أو الصبيانية أو الحمقاء..
من النضج الاستراتيجي أن تقر الدول الاستراتيجية في العالم أن المغرب قوة مهمة من أجل الاستقرار، والسلام، والتقدم والاعتدال – وهو الأمر الذي يقدره الكل عميقا وليس دولة الارتباك بين الشرق والغرب، بدون بوصلة لا استراتيجية ولا أخلاقية.. يعرف المغرب أن بعض الأفعال تستوجب الرد، لأنها بكل بساطة إعلانات حرب، لكنه يدرك بميزان العقل أيضا بأن البلاد صمدت واستطاعت مواجهة مؤامرة عمرها 47 سنة لتفكيك المغرب، وتقزيم خريطته وتقليم ترابه، ولم يمنعه ذلك من أن يتعامل بالنضج الاستراتيجي اللازم…
ليس صدفة أن النضج الاستراتيجي للدول، يساير ويتماشى مع القوة والنضج اللذين تحصل عليهما في القرار الدولي، وليس صدفة كذلك أن السمو الأخلاقي يكون حسب درجات السمو السياسي، والحظوة وسط الأنظمة والدول، وعندما تلجأ بلاد ما إلى أحط ما في بلاد أخرى، كي تهاجمك، فأنت في تقديرها قوي الجانب ومهاب، ولا يمكنها أن تتحمل مسؤولية حقارتها مباشرة بل تهربها إلى جوار..شمالي !!
خلاصة القول إن المغرب «انحاز إلى رصيف ديالكتيك الذكاء المتعدد والواضح الذي يعتبر ميزة الدول الناضجة استراتيجيا «¡ على حد تعبير كاتب ومحلل إفريقي.
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 18/07/2023