في رسالة واضحة إلى ماكرون والدولة الفرنسية الحالية، الملك محمد السادس بقلم ساركوزي! -1-

سيظل محمد السادس في التاريخ كأحد أكبر ملوك المغرب
المغرب بلد شقيق، وهو قرين فرنسا وصنوها ويجب اعتباره كذلك من الآن فصاعدا
من المهم جدا قراءة ما كتبه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في كتابه «زمن المعارك» الصادر حديثا.
وقد تسابقت المنابر والمواقع على نقل بعض ما فيه، من زاوية عكست في الغالب اختيارات الصحافة الفرنسية في تقديمها لمحتوياته، في ظل ما تعرفه العلاقة بيننا وبين بلاده، من جهة، وظلال ما تعرفه العلاقة بين بلاده وجارتنا الشرقية.
غير أن هناك زاوية أخرى أكثر جدوى وقوة تكمن في تقديره للمجهودات التي يقوم به ملك المغرب لصناعة مغرب جديد، قراءة رجل دولة عاش مع المغرب لحظات قوية من تاريخه الحديث قبل وبعد الربيع العربي.. قريبا وبعيدا من السياسة المباشرة، قريبا من التاريخ وصناعة المحطات الحاسمة فيه.
في هذا السعي وعي متقدم على السيرة الذاتية المنغلقة لكاتبها، نحو محاولة ترصيد سردية مشتركة بين بلدين، وقراءة سيرة بلاد تحت سلطة ملك يسير بها نحو المستقبل بدون عقد وبوعي حاد بالمهمة التاريخية..
وأرى أن ترجمة مقاطع وافرة من الفصل المخصص للمغرب، على الأقل أطول الفصول فيها، قمين بأن يقدم مادة تأمل سياسية مهمة بالنسبة لجزء من قراء العربية، وأيضا في تقدير الموقف الفرنسي عموما وتلاطم أمواجه..
في لحظة حاسمة من تاريخ ولايته السياسية، في المنتصف بالضبط، وجد ساركوزي أن الوضع السياسي والرئاسي يتطلب منه «خلوة» للراحة واستجماع الأفكار وتحديد وجهته السياسة: «لقد شعرت بتبرم جزء من الفرنسيين، وشعرت بصبرهم يزداد نفاده، واستشعرت الحاجة إلى التفكير وتغيير المزاج. وقد سنحت الفرصة بمبادرة من ملك المغرب محمد السادس، حيث دعانا إلى قضاء بضعة أيام في إقامته بمراكش من أجل الراحة واغتنام الفرصة لتناول العشاء معه، وعقد اجتماع معمق حول العلاقات بين بلدينا. لطالما أحببت المغرب، وهو من بين الأوطان الشمال إفريقية الثلاثة، الوطن الأقرب إلينا، وهو الوطن الوحيد الذي هضم بسلاسة تاريخنا المشترك بدون أدنى شعور بالمرارة أو الضغينة، والفرق بينه وبين الجزائر فرق مثير، ولم تقع حرب بين بلدينا، هذا يُحسب له حسابه في تاريخنا المشترك.. ثم كان الأمر يتعلق بمراكش، التي منذ أول زيارة لي من زمن بعيد، سلبتني كما لو كان حبا من نظرة أولى بسبب جمال هذه المدينة..وجدت فيها الضوء الذي ابتكر منه ماجوريل الأزرق الذي حمل اسمه، وفيها شعرت بطيب النسيم النازل توا من برد الأطلس، والذي يصل الواحة الممثلة في المدينة بعد أن يعبر الصحراء الحارة، والتضاد يمنح الريح التي تهب على هذه المدينة المباركة انطباعا حريريا! والثلوج الخالدة تسهر عليها بمنحها المياه عند الحاجة والسماء الصحوة باستمرار. أحب فيها الفن والفنانين والثقافة والألوان الموجودة في كل زقاق من أزقة المدينة .. وأخيرا هناك الناس البسطاء والأنيقين، الأسخياء والمتحفظين، الفرحين والجديين، المضيافين والميالين إلى التكتم. وأنا أحب التجول في الأزقة الصغيرة الضاجة بالناس والغامضة. كل شيء فيها مختلف، وبالرغم من ذلك شعرت فيها دوما بالألفة مع كل شيء ومع الجميع. المغرب بلد شقيق، وهو قرين فرنسا وصنوها ويجب اعتباره كذلك من الآن فصاعدا. لقد أصبح المغرب قوة إفريقية عظمى. مقاولوه ومثقفوه وفنانوه ونخبه ليس لها ما تحسدنا عليه، وسيظل محمد السادس في التاريخ كأحد أكبر ملوك المغرب، وسيكون إرثه أكثر خصوبة من إرث والده.. ما زلت أذكر نزعة التشكك بله الإشفاق التي تلت وصوله إلى الحكم في أعلى مستوى الطبقة الحاكمة ، وتبدو أقوال تلك الفترة تافهة، بالنظر إلى المسافات التي قطعها ببلاده…
لطالما شعرت بهذا القرب مع المغاربة، إنهم شعب مضياف وسخي بشكل كبير، حتى ولو كان لديهم القليل تجدهم دوما مستعدين لاقتسام وفتح أبواب منازلهم، والدخول في مناقشات ومنح الشاي الحارق بسخونته الذي يعد مشروبهم الوطني.. لقد نجح المغرب بدخوله في العالم المعاصر بدون التخلي عن أسلوب حياته، وعن تقاليده وعالمه الخاص به، وليس المغاربة من نشرح لهم أهمية الحفاظ على الهوية الوطنية، كما لم يولد بعد من يسعى إلى نزعها منهم! إن فرنسا عليها أن تعتز وتحتضن هذه العلاقة المميزة ، وعليها الحفاظ عليها لأنها ليست علاقات بالسليقة! إن المغاربة سريعو العاطفة إلى درجة الحساسية، ولابد من الانتباه إلى ذلك لأن أبسط خطأ حتى لو كان بدون قصد يمكن أن تكون له عواقب سلبية. هكذا فالملك ملك، وهو إضافة إلى ذلك سبط النبي، وعلى رئيس الجمهورية الفرنسية أن يكون حكيما، ويملك حكمة الوعي بهذه الخاصية واستنتاج كل الخلاصات في مجال البروتوكول. الملك محمد السادس رجل واسع الثقافة، وله مهارة فكرية مذهلة، وكم من مرة أثارت إعجابي قدرته على استباق الأحداث والحفاظ على بوصلة رؤيته لبلاده؟ وهو يعرف كيف يكون صديقا وفيا بثبات الصخر وقلما يظهر تبرمه أو خيبته، لكونه يحس بهما عميقا. وهو، إذا لم يقم برد فعل على الإساءة إليه فلا يعني ذلك بأنه لا يفهمها. والعلاقة تتطلب الثبات واللباقة والوفاء، وتستوجب كذلك بعضا من التحفظ، فالزمن الإعلامي ليس مكانه، وهو يصر على أن يكون متيقنا بأن أقواله لن تستغل من طرف الصحافة أو الأنكى من ذلك، تحرفها…
لقد كان جاك شيراك قريبا من والده الملك الحسن الثاني، وقد ظل كذلك مع ابنه، مع وجود مسافة بينهما، لكنها كانت قضية أجيال كذلك»… يتبع..