في مثل هذا اليوم منذ ربع قرن: …وكان يوم البيعة المتبادلة! (2)

عبد الحميد جماهري
في تلك الجمعة البعيدة، منذ ربع قرن، وقف المغاربة ليودعوا ملكا تولى حكمهم قرابة أربعة عقود ..
مات الملك
وليبايعوا ملكهم الجديد….
عاش الملك
ووقفوا كذلك ليتابعوا، كما لم يحصل لمن سبقوهم من الذين عاصروا أربعة قرون من الملكية، مشاهد البيعة. في مشهد تمتد جذوره إلى قرون بعيدة، احتضنوه كجزء من هويتهم السياسية والتاريخية والروحية. حتى أنه كان استثناء مغربيا، يجعل المغرب البلد الوحيد في العالم الإسلامي، الذي يحتفظ بِمشْهدية المبايعة، ويكرسها عتبة ضرورية لبداية الحكم وبناء شرعيته.
بعد ربع قرن، يتساءل الباحثون وصناع القرار والرأي: ما الذي جاءت به كل المياه التي عبرت من تحت الجسر؟
وأول ما يشد الانتباه أن البيعة، كممارسة خارج طقوسها التي تتكرر مع كل عيد عرش، تميزت بلمسة مخففة للبروتوكول، لعله كان امتدادا في ما بعد، بخصوص البروتوكول الملكي ككل، ولن نبالغ بالقول إن هذا الاستثناء المغربي في دار الإسلام، يقابله اليوم ما يشبه المشهد نفسه في .. الملكيات من خارج العالم الذي ينتمي إليه روحيا وشرعيا، كما هو حال الملكية البريطانية.
ويحسن بي هنا الاستدلال بما كتبه العروي، الذي يتابع، عن كثب، قضية من هذا القبيل:حول البيعة وحدها:« لقد تم تنصيب الملك الجديد في المملكة المتحدة بنفس الطريقة تماما التي تم بها تنصيب محمد السادس بعد وفاة الحسن الثاني، وذلك بحضور القادة السياسيين ولاسيما الدينيين، وكان الحفل حفل بيعة بتوقيع عَقد حضره الشهود وكل شيء تم تدوينه كتابيا في وثيقة تبدو مثل عقد شراكة، وهناك حتى اليمين المؤداة من طرف الملك الجديد للدفاع عن عقيدة الإيمان والحفاظ على امتيازات الكنيسة. وهذا لا يمنع، أنه انطلاقا من اليوم الموالي سيقوم الوزير الأول بعمله في تدبير البلاد والبرلمان، في مراقبة عمل الحكومة والتشريع بدون إذْن مسبق من الملك».
ومن الوظائف، التي تغيرت بدون أن تتغير، إذا شئنا القول، هو أن البيعة، بما هي تأسيس للشرعية الدينية، وكذا جزء من شرعية الممارسة السياسية للملكية، أصبحت جزءا من قوة الدفع نحو الإصلاح: ليست فرملة، كما شاهدناها في فصول من التوتر السياسي المغربي ( قضية البرلمان والفريق الاتحادي مثلا أو قضية الاستفتاء…). بل صارت جزءا في بناء دستور الدولة.
وإذا كانت قد قامت كدعامة وسند في بناء مقومات وتحصين التراب، كما حدث في منتصف السبعينيات عندما طلب المغرب رأي محكمة العدل الدولية. فما من شك أن البيعة، بعد ربع قرن، قد صارت عنصرا مهما في حسم القضايا التي قد تكون موضوع تباين داخل الأمة: كقضية حدود الاجتهاد، وطريقته، وقضية المرأة والأسرة، وقضايا أخرى منها الاعتدال والتطرف وما إلى ذلك..
وتقريب التدين المغربي من قيم العصر بالدفاع عن إمارة المؤمنين التي تقود التحديث وتضمن الثوابت، والانفتاح مع تصليب منظومة القيم المنتجة، القيم الفاعلة، حتى إن الدولة أضحت فاعلا أخلاقيا.. ومن الأشياء التي أصبح الجميع يقر بها، أن التدين المغربي صار أكثر وضوحا وأكثر اقترابا من المضامين الإصلاحية التي عمل من أجلها كل المغاربة.
وقد كان مثيرا أن يخبرنا وزير الأوقاف في حوار مع كاتب هاته السطور بأن من العبقرية المغربية أن المؤسسات الحديثة والبرامج السياسية تتلاقى مع مضمون البيعة..»!
\وهو ما قد نستخلص منه أن البيعة، كما كانت سندا في تحصين تراب الدولة الأمة، أصبحت سندا في تثْوير ( من الثورة) مضامين الدولة الأمة. وتحديث أفقها القيمي والثقافي وما إلى ذلك..
ولعل من أقوى التعابير التي مست البيعة هو قول الملك، في مناسبة الذكرى العشرين لعيد العرش إننا نحمده سبحانه على ما مَنَّ علينا به من نعمة الوحدة والتلاحم، والبيعة المتبادلة بين العرش والشعب» . وهو تعبير يخدم أكثر من أفق، خارج البلاغة المعنوية والتاريخية له.
يوم البيعة، كان يحمل في ثناياه بذور تجديد إشعاعه، كما سيتضح من بعد 25 سنة، على تلك الجمعة، ولعل في ذلك ثلاثة مسارات:
-مسارات التوجه الإفريقي، الذي رافق الإشعاع الاقتصادي والجيو-ستراتيجي، ومنطق المال والأعمال عبر تحيين طرق القرن التاسع عشر، من تجارة وتدين وزوايا ورحلات….
-مسارات الروحانية المغربية في أوروبا، وتجديد العلاقة العقدية من أجل نموذج مغربي قابل للاستيراد بدون نزعة دعوية تبشيرية ذات معنى إيديولوجي (شيعية أو وهابية مثلا )
- مسارات الإشعاع الروحي، من خلال بناء المشترك الروحي مع المسيحية واليهودية، من إمارة للمؤمنين غير محصورة في الإسلام، ثم الانتقال إلى إشعاع مؤسساتي دولي، عبر بوابات التسامح وقوانين الأمم المتحدة. والهيئات الدولية لحوار الحضارات. وما إلى ذلك..
ولعل أهم المسارات عند العبد الفقير لرحمة ربه، هو مسار التأصيل، من تحت إمارة المؤمنين، وفي حياض البيعة لفكر التنوير، ومعانقة الأفق الإنساني الخلاق، في الفكر والأخلاق . وقد تجلى ذلك في العديد من الدروس الحسنية في رمضان التي أثارت المتتبعين بتثمينها للتراث الإنساني الأخلاقي، بل حتى الاقتصادي من زوايا مغايرة (ماكس فيبر والأخلاق والاقتصاد، أو الأفق الأخلاقي الغربي وعلاقته بتجديد الدين عند الأمة)
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 23/07/2024