قررت أن تنتظره، حتى بعد موتها!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

قبل أن ترحل غيثة بناني، طلبت أن تُدفن في الأرض التي من عليها اختُطِف المهدي!
كما لو أنها قررت أن تنتظره،
بعد مَوْتها. هنا في المكان نفسه، فوق الأرض نفسها..
باللحن الحزين نفسه، تحت اللحود.
هناك في باريز، ستتشح بالغياب، كما اتشحت ذات عمر بالأسود
وتنتظره!
هكذا فقط نتفهم قرارها بأن تُدفَن في المنفى ..
وكان هو بلا قبر وهي اختارت قبرا منفيا
قبرا في المنفى الذي عاشا فيه معا، بعد أن اضطرا للخروج من مغرب الستينيات القاسي.
لم يسبق أن كانت الذاكرة صنوا للحقيقة، كما كانت في التجربة الإنسانية لرحيل الشهيد المهدي بن بركة، وتجربة حياة زوجته غيثة بناني. ترك لها غيابه كاملا، بعد أن اقتسمت معه حضوره كُلَّه.
في النهاية، كان موته طويلا…
وكان حزنها أطول..
اقتسما نصف الحياة
نصف الحضور
واقتسما الآن كل الممات..
الغياب كاملا.
وشاءت أن تنتظره بعد الموت: هذا الاختيار، الذي نقله أبناؤها خسارتها في بيان النعي الأخير عنها، يرج العظام الكبرى:
لقد اختارت أن تدفن في المنفى، هناك يصير القبر أيضا محطة انتظار
هناك ستنتظره في قبرها، بعد أن انتظرته كثيرا خارجه
أو بالأحرى على حافته..
أو في الطريق إليه..
كل شيء فيهما كان استثنائيا..
لقد عادت إلى بلادها وتصالحت مع بلادها، بعد قرار الملك الجريء والإنساني والعميق بدعوته العاجلة لها إلى العودة إلى البلاد، في افتتاح الطريق المخضر الطويل في ربيع العهد الجديد.
تصالحت مع البلاد وظلت تنتظر أن تتصالح مع الذاكرة.. مع الحقيقة ليرتاح الشهيد.
ولمّا تعذر ذلك، عادت لتنتظر من تحت قبرها!
الزوجة التي تنتظر عودة الغائب، في الأسطورة الأوديسية، »بينيلوب،« عاد إليها أوليس وقد هزم كل الرياح،
غيثة بناني لم تكن تنسج رداء لتحتال على جنونها، كانت ترسم صورة المغربية الفاضلة الصبورة طوال ستة عقود من الزمن، وترسم أيقونة المرأة المناضلة، امرأة شجاعة وفعل.
الزوجة التي ظلت صامتة، لا تتحدث إلا مع زوجها الغائب، ومع أبنائهما لتربيهم لقدَرٍ خاص … وتؤكد الحكمة العالية في الوفاء وذكاؤها في كل ذلك هو نبلها في الحفاظ على الشهيد والفكرة والأمل
لم تغادر ذاكرتها!
هناك حيث يقيم الشهيد، والتي تحولت، بالرغم من الزمن، إلى ذاكرة وطن، كأنما تعترف بأن الغياب يصبح حقيقة نهائية إذا ما تهاوت الذاكرة
أو فرغت..
مثل أوليس، ذهب الشهيد إلى الحرب من أجل مغرب جميل ولم يعد
وخلافا لأوليس، لم يعد
مثل بينيلوب ظلت أرملته تنسج الزمن وتنتظر الشهيد..
وتخاطبه في سرها: تخلق الأيام والساعات والدقائق والثواني،
وتبدع المزيد من الزمن منذ رحيله غير المعلن..
في لحظة صارت تنتظر الحقيقة، حيث التماهي والانسجام الكبير بين الحقيقة وجسد الشهيد الذي لم يعد .. الجسد الذي لا قبر يأويه ولا سماء: القصص المتداولة وحدها تضعه حيث يشاء الخيال المتطلع إلى الحقيقة!
ونسجت الزمن الذي سيعيش فيه أبناؤها كما يليق بهم: أبناء شهيد خارج المألوف، بقوة المرأة الصابرة، الصبورة، القوة الهادئة والأخلاقية التي تصنع أسرة على آثار الغياب الكبير وتملأ بها فوهة واسعة في العدم!
غيثة بناني، امرأة من طينة خاصة في السردية الوطنية لما بعد الاستقلال، امرأة تعود إلى تفاصيل البلاد لا لشيء إلا لكي تجد موتا.. مؤكدا لزوجها!
موتا معترفا به رسميا..
عندما يكون الأكثر رعبا من الاختطاف…. هو ألا تنتظر !
والأكثر رعبا من الموت.. هو الكف عن الانتظار، انتظار عودة الراحل أو أخبار مؤكدة عن رحيله…!
لقد جعلت الأرملة الوفية من انتظار الحقيقة.. حقيقة مغربية، ولعلها مثل الحقيقة نفسها، باعتبار أن هاته الأخيرة نفسها تعلمت… الانتظار دوما ، لكي تبزغ في وقتها!

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 28/06/2024