قضية خاشقجي:قطع الجثة، قطع الشطرنج… في فهم موقف تركيا -1-
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
أصدق، أو أكاد، أن إنسانا عربيا، أصبح له وزن كبير للغاية، في العالم اليوم، حتى أن قتله يهز العروش والأمم المتحدة في النحيب على جثته الغابرة.
أصدق أننا أصبحنا، كعرب ومسلمين، غير قابلين لنسيان العالم، بعد أن كان لعملية اغتيال جمال خاشقجي البشعة والحيوانية حقا - حتى الدولة المتهمة نفسها، وولي عهدها المتهم نفسه عن طريق الصحافة وعن طريق العواصم، استبشعاها ورفضاها رفضا مطلقا، بعد التباس في التصريحات والرواية- (كان لها) صدى يفوق التصور، يفوق حزننا ويفوق هول الصدمة….
لكن، أن ينتبه العالم بأن القتل العربي يمكن أن يصل إلى فؤاده، فذلك أمر لم نتعود عليه حقا، ربما لأننا تعودنا الموت جماعات
وطبقات
وشعوبا كاملة، كما في فلسطين مثلا..
ومع ذلك، هذا أمر جيد: في المرة القادمة سنموت، فرادى دوما، أكثر حتى يكون لنا وزن أكثر، بدون سابق اقتناع بأن الموت الجماعي للعرب والمسلمين يمكن أن يخلف صدمة مثل هاته، أو غضبا مثل الذين نقتسمه عن حق مع العالمين..
يمكن لقتل بمنشار، أن يهز الفؤاد، ولا يمكن لقتل بدبابة “أبرامز” ولا صواريخ “توماهوك” ولا مروحيات” الاباتشي” التي تخلف ألف قتيل في الدقيقة، أن يسعف القلب على عتبة في العاطفة..
أصدق بالفعل، ولكنني مع ذلك أحاول أن أخرج عن الموقف المبدئي، بإدانة عملية القتل، وأسلوب الاغتيال لتصفية الخصوم، إلى ملابسات …تفوق جثة ضحية إنسانية في حرب واضحة الأعداء..
فالقضية تشدنا كمغاربة، لا باعتبارها شأنا سعوديا محضا فقط، بل باعتبار تاريخ محلي في القتل فوق تراب الآخرين..لم نقبله لأنفسنا كبلد، لهذا لا نقبله للـ«خاوة »والأشقاء أيضا!!!
وهناك »تراث« في القتل الوطني، لا شيء فيه قابل للنسيان.
كما تشدنا إلى القضية تقاطعات غريبة مسرحها الكرة الأرضية عموما، والشرق الأوسط الجديد على وجه التحديد:
الموت في الشرق الأوسط ليس فقط عملية مخابرات وأجهزة،
بل هو سنة اليومي في إعادة بناء تاريخ الدم القبلي والطائفي باسم مستقبل حديث يا حسرتاه!
وقرار القتل ليس تجربة تراجيدية إغريقية، تستوجب المبررات- التي لا تستساغ أبدا، أخلاقيا ودينيا وحضاريا، لكي يُقدم القاتل على تصفية القتيل، بحضور وعي شقي يبرر نزول الإنسان إلى حيوانيته ببرود العقل المكيافيللي، بل يراد للقتل الآن وفي هذه النازلة أن يكون لعبة شطرنج أكبر من جثة وأكبر من قاتل.
أبدا ليس ما يثير الانتباه، هو امتحان حقوق الإنسان على ضوء ما يخلفه المنشار من أشلاء، أو ما تتركه آلة الحرب السياسية من توابيت لا أثر لها..بل ما يثير الانتباه أكثر هو كون الجثة اليوم، المقطعة أجزاء في سفارة بتركيا، تتقاطع حولها استراتيجيات عديدة، نكون نحن في الغالب أقرب فيها إلى رجل الشارع العام الذي لايشمئز من أي موت تحلق حوله طائرات “الرافال” الفرنسية و”الإف16 “وباعة السلاح والولدان الذهبيون في البورصات وشقائق الاستراتيجيات الجديدة في إعادة ترتيب العالم، والشرق الأوسط منه، بقدر ما يغضب لموت فردي ولكنه بشع للغاية.
والحقيقة أن القضية تسير إلى أن تصبح عنوانا للاستراتيجيات أكثر من السياسة.. وهو ما يجعل السؤال البسيط في كل جريمة: ما السبب وراء القتل؟ يأخذ أبعادا ملحمية أكثر مما يميل إلى البداهة التي يعلمنا إياها علم الإجرام، “الكريمينولوجيا”.
لا أحد قدم السبب في القتل المباشر؟ حتى الرئيس التركي الطيب أردوغان، الذي وجد أمامه فرصة تاريخية كبيرة، فضل الوصف أكثر من المعطيات، فتحدث عن جريمة« وحشية»، كما نقول نحن، وجريمة سياسية، كما قد يكون منطقيا بسبب ورود اسم دولة ومخابرات وقنصلية ووو… في أدبيات الجريمة، وهي جريمة »مدبرة«، كما قد أقر الجميع، كما طالب بالتحقيق فيها وإعلان نتائج ذلك، وهو نفسه ما ورد في بيان الأسرة الحاكمة في السعودية...
وآخر الأخبار تتحدث عن تعاون وثيق بين النيابتين العامتين التركية والسعودية..وقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يوم أمس الجمعة بأنقرة، أن المدعي العام السعودي سيأتي إلى تركيا يوم غد الأحد، وسيلتقي نظيره التركي في إسطنبول .
وأكد أردوغان، خلال اجتماع موسع مع رؤساء فروع حزب (العدالة والتنمية)، أن ”على الرياض الإجابة عن أسئلة تحمل أهمية كبيرة في سير التحقيقات بخصوص الجريمة”، مضيفا ”لقد أطلعنا من يريد معرفة ما جرى على المعلومات والوثائق التي بحوزتنا مع إبقاء النسخة الأصلية (من الوثائق )لدينا، كما زودنا السعودية بها أيضا”. وشدد أردوغان على ضرورة ”الكشف عن هوية المواطن التركي الذي صرح وزير الخارجية السعودية عادل الجبير بأن الجثة سلمت له لإخفائها”.
وكان أردوغان - الذي لا يجب أن ننسى أنه يعتقل الصحافيين جماعات في ظروف معروفة، حتى وإن كان لا يحرص على اختفائهم بطرق واضحة - قد أغفل في بداية التصريح بالقضية البعد القضائي، لفائدة البعد السياسي، وتولى هو عمل المدعي العام، لكي تحتفظ القضية بسقفها السياسي، الذي لن يقف عند العلاقة بين الدولتين..
أردوغان يتصرف بالحد الأدنى الحقوقي، مع ميل واضح للحساب السياسي أنه في المنطقة الفاصلة بين »نية الحقوق وصريح الاستراتيجية.«…
هل كان الصحافي المعارض »معارضة معقولة، كما تصفه الصحافة الانكلوساكسونية، يخيف أحدا في الشرق الأوسط، وهل قلب الموازين حقا برفضه العودة إلى بلاده؟
هل كان يملك ما يجعل أمريكا تتابع وإيران تفرك يديها قبل رجليها بالرغم من علاقتها المعروفة مع معارضيها وصحافييها، ويجعل تركيا تستعيد المبادرة في شرق أوسط سني-شيعي، حربي- سلمي؟
من كان يخاف الرجل الضحية رحمه لله؟
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 27/10/2018