قوة تحرر للعقل والجماعة والتاريخ : ولكن ..

عبد الحميد جماهري

ونحن مدينون لقضية نسائنا بأن نستطيع تحرير الكثير من تراب التاريخ، والعقيدة والعقل والحياة العامة، ونهرع الى جوهر قضيتهن ، من أجل أن نستأنس فينا القدرة على تطوير المجتمع لما فيه مصلحته، وتحريض السياسة على أحسن ما فيها، واستدراج القوانين نحو الجهة الصحيحة من التاريخ، وإقناع الدولة بحتمية دورها في التقدم، والمؤسسات بضرورة السير حثيثا نحو المساواة..
لم تكن المعركة النسائية دوما عفوية وتلقائية، كما قد تبدو الآن، ولا كانت خيارا مشتركا منذ الاستقلال..
كانت الحرية تستوجب الاختيار، ولم يكن الجميع يملك القدرة عليه، والاقتناع بها، كما هو الحال اليوم، بنسبة واسعة في الرأي العام.. مناطق كثيرة تحررت بفعل المعركة، وكانت قاسية ودامية ضد القناعات القاتلة.. اليوم لنا ما نقدمه لمرآتنا المشتركة من إعجاب ذاتي بما تحقق..
على سبيل المثال، لنا في «السلاليات» عبرة تاريخية ودينية معتبرة، فهؤلاء النسوة المتلفعات بجلابيبهن الأصيلة، وقفن طويلا وبعناد أسطوري في وجه «الحكرة» والدونية، وفي صف التاريخ، واستطعن في النهاية تخطي عتبات احتمت طويلا بالأعراف والتقاليد والأخلاق «الرأسمالية» المحلية التي نعرف وحدنا صناعة وصفاتها..
وقد يرى الحداثي ها هنا معركة مربحة من أجل توطين هذا المفهوم البشري الكبير في مجالنا المعيشي، لكن «السلالية» ترى في ذلك قانونا عمليا مفاده أن القانون عندما يكون في زمانه يكون عنوانا للحداثة..
ولطالما اعتبرت العقلية المصفحة أن حقوق المرأة إشاعة برجوازية يراد للفقيرات تصديقها، وهي لا تعنيهن.. لكن حالة النساء السلاليات كشفت الى أي حد كانت الحقوق شأن الفقراء والفقيرات أولا، وأن كل حق تنزعه المرأة هو حطب تدفئة في قمم الثلوج القاسية كما في فيافي القحط المترامي الأطراف في خارطة الوطنية.
تتحرر المغربية، فيتحرر المغرب، أكثر فأكثر..
وبالضرورة، لا بالاستنتاج العملي، يكون كل حيز تحرره المرأة المغربية، في الذهنية المغربية أو في مجالات الحياة، هو «تفضية» للحرية حيث لم تكن موجودة، وتثبيتها برا وبحرا وجوا، في القضاء، وفي الاسرة، وفي الجيش، وفي الأمن، وفي الجمارك، وفي الفقه، وفي كل ماله علاقة بحاضرنا ومستقبلنا..
فإلى عهد قريب، كانت فضاءات عديدة «ميزوجينية» لا تقبل المرأة. البحر كان كذلك والجو كان ، وقسط غير يسير في خارطة البر كان على شاكِلَتِهما..
واليوم، ليس تمجيد الحضور النسوي تمرينا شاعريا مشاعا بفعل المناسبة، بل حيثما تلمس يدها شيئا تضيئه، وتبعث فيه حياة كاملة.
لقد ساعدت المرأة بلادنا على تخطي استحالات تعيش فيها الدائرة العربية الإسلامية، بعنف أحيانا وبتسامح مشروط أحيانا كثيرة، إلى حدِّ الساعة، وساعدت بلادها على أن تقف بشجاعة أمام أعطابها.. ورأينا كيف استطاعت أن تحرر قلاعا استولت عليها العقلية الحجرية لقرون، لمنع المغربية من حقها في التراب السلالي، وشاهدنا وصولها إلى مواقع متقدمة في مجالات القضاء، وتابعنا ترسيم المتن الاجتهادي في حق المرأة في «الكد والسعاية»، والذي بالكاد تناقشه هيآت كانت سباقة في حقل النهضة كـ «الأزهر الشريف» في مصر والمجمعات الفقهية في المشرق..
وهو ذا ما نسميه مكاسب تحققت لنا جميعا.
لعل الحيز الأكثر صعوبة، وقُلِ الأكثرَ حراسةً، حيث يُصرُّ الموتى أحيانا على عدم فتحه وولوجه، هو العقل. العقل الفقهي، والعقل العقدي، والعقل الديني عموما عندما يُساء فهمُه..
لهذا كانت لنا ثورة باسم رايتها، لوائها، وبتحريض من المؤسسة الملكية وإشراكها لإمارة المؤمنين في تحفيز التاريخ والمجتمع على التقدم بتدرج وعقلانية ..
وأحيانا لا تقف القوة المضادة باردة، وتحاول أن تجعل من حرب الأنوثة حربا لا هوادة فيها. وسرعان ما تنكمش أمام إرادة الذهاب إلى الأمام، وتعود إلى المطالبة بـ «ثورة مضادة» صغيرة ترد بها الروح، انتظارا لرهان قوة جديد ، ينتهي نفس النهاية..
إن أكبر عملية تحرير يتم منذ عقدين من الزمن، أساسا، هو تحرير الصوت، إذ لم تعد قضية المرأة في حاجة إلى استعارة أصوات الآخرين للحديث عن نفسها، بل صارت تحتاج مناصرين يكشفون عن وجوههم بكل صراحة، بلا مواربات أو تسويغات إيديولوجية مزيفة، باسم العائلة أو باسم العقيدة أو باسم أي مَوْطن آخر من مواطن الإيديولوجيا…
وبدون الحاجة إلى عاطفة مناسباتية، فذلك لا يعني إعفاء الديموقراطيين والتقدميين من معركة الحداثة على عتبة المرأة.. فهم في حاجة الى البِرِّ بكل هذه الانتصارات، وربما الشعور بالراحة لأن جزءا من أعبائهم كديموقراطيين أصبح مشاعا مجتمعيا تقتسمه الدولة معهم..
غير أن هذه الثورات الناجحة لا زالت لم تصل إلى التغيير الكامل والنهائي، ما دامت المرأة تجاوزت حظها في الفقر عالميا، بدون أن يقتسمن حقهم في مساواة مع الذكور في مواقع كثيرة..
ليس من الحكمة دوما تقدير الحرية والمساواة بأرقام النمو والتضخم والعجز، لكن الحقيقة المُرَّة تقول بأنه كلما استطاعت المجتمعات تحصين حرية النساء، بمكتسبات اجتماعية واقتصادية أقوى، تنفس العالم بطريقة أفضل، وزاد الاستمتاع بالحرية أكثر..
وعليه، فالذين يعارضون المساواة إنما يعارضون رفاهية متسمة بكل جيد ونافع.
وقد تُعلِّق- إن لم تجهض- الشروطُ الاجتماعية والهشاشة وعدم الاستفادة من الحداثة المادية للمجتمع كل مكسب أو تقدم يتحقق على مستوى الحداثة الفكرية والمجتمعية والقانونية والذهنية.
لقد صار من الإجباري، أن ينكب المغاربة على وضعية النوع الاجتماعي في مختلف المجالات وعلى مكتسبات وتحديات المساواة بين الجنسين في مضانَّ عديدة.. حتى يتسنى لنا جميعا أن نزهر ونزدهر بالقرب من الحرية الفاعلة والمقدامة..
ومن عناصر القلق التي ترمي بظلال المساءلة على كل ما أنجزناه زواج القاصرات، والذي يشكل عائقا ذهنيا وقانونيا وتدبيريا ومجتمعيا قد يلخص نقط العطب على مستويات عديدة وهو في جزء منه مرتبط بتطبيق الثورة المغربية تطبيقا بلا استثناء..

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 08/03/2022