كما بعد كوفيد وما بعد الحرب …سيزهر ربيع ثالث بعد الزلزال

عبد الحميد جماهري

هذه الهزة قتلت عشرات المئات من المغاربة، ولكنها لن تقتل المغرب. أجزم، وتجزم ونجزم وتجزمان ويجزمون أبدا!
هذه الهزة ستقوي المغرب ككل شيء سيّجه بالحكمة الشعبية البهية وعتّقه في روحه المكابرة :اللي ما قتْلت تسمَّن!
ومجهود المغرب لمعالجة ما بعد الزلزال، سيتجاوز منطق الترميم، إلى منطق استدراج المستقبل وآفاقه الجديدة لتجاوز العقبات.
حدث ذلك مع الوباء العالمي، عندما تجمدت الأرض في خوفها وعجزها، ولم تكن لنا، ككل البشرية، بروفات سابقة في تدبير الوباء، ولم تكن لنا أية خبرة في البحث فيه، لم تكن لنا سوى أبجديات بسيطة في دروس الكارثة الوبائية الكبرى. كان أقصى ما تصله قدرتنا هو أقراص الزكام، وشراشف المحتضرين في المستشفيات وعجز بنيوي في حماية الجسد: لم نكن نعرف علوما كثيرة في الباكتيرولوجيا، ولا في تصنيع اللقاحات ولا في نشر الخارطة الصحية ولا في تغطية المجتمع بما يضمن حدوده الدنيا من الدواء.. كل ذلك تعلمناه تحت نيران العدو ـ الوباء. وتعلمناه ونحن نساق إلى المصحات والمستشفيات الميدانية وإلى اللحود المعزولة والمحفورة بتوجسات العدوى..
اليوم، صار المغرب محطة متحركة في إفريقيا، وصار المغرب بطموح أكبر يتجاوزه إلى تطعيم الجسد القاري كله باللقاحات الكاملة، وصارت له جيوستراتيجية عالية في الميدان.
كانت فرنسا قد تأخرت عن الشروع في مواجهة الوباء وإنتاج اللقاحات متأخرة بشهر ونصف من الموتى والمرضى والممددين في أسرة الترقب والهلع.
وكانت بلدان أكثر تقدما تلهث وراء النموذج المغربي..
ما بعد الحرب لم يكن كافيا في توفير التغذية والأسواق، ومواجهة إكراهات المدافع، وهي تقصف القدرة العامة للبلدان: وعندما هرولت الدول شرقا وغربا، بقيت العقيدة نفسها هي التي تحكم الدولة المغربية: صامدون هنا بما نملك وبأكثر مما نملك: في مواجهة الحرب، نعزز السيادة في الغذاء والطاقة والصحة.
في الكارثتين رأى المغرب ما يجب أن يراه التاريخ: عودة الدولة بقوتها وصلابتها، وبما يجب أن تتركه من حلول جذرية:
سننتقل بك أيها العالم إلى طاقات أخرى لا تنال منها الحروب: طاقة البحر، والشمس والهيدروجين وطاقة الفوسفاط في تخصيب إرادة البشرية للخروج من حسابات باعة السلاح ومهندسي الخرابات الشاملة.
هنا كان المغرب تحت المجهر، وكان عليه في عز كل هذا، أن يواصل تحصين بلاده من الحسابات السياسية المرتبطة بالآفات وينتبه: ماذا سيفعل العدو بالحروب لكي تصيبنا بالعجز وينتصر في حرب الأرض الموحدة في المغرب؟..
في الزلزال أيضا سيخرج المغرب وقد اكتسب مساحات واسعة في سيادته، وكذلك في قدرته على تنشيط مفاصل دولته لإيجاد الحلول الجذرية والدخول في مسارات استراتيجية لا تقف عند دفن الموت وإنقاذ الموجودين تحت الأنقاض وفي ترميم المنازل والطرقات . بالعقل والقلب معا ، دخل المغرب للعلاج الفوري بما يجب ووضع السكة السليمة نحو مزيد من صلابة الوطن وقوته، لإشعار من لم يشعر بعد بأن البلاد ذات سيادة، في الفرح وفي الأحزان على حد سواء…!
المغرب لا يمارس السياسة السياسية، ولكنه في الوقت نفسه لا يقبل أن تنطلي عليه مقتضياتها وحساباتها: على حد القول المأثور : لستُ خِبًّا ولا الخب يخدعني..!
لم نخدع أنفسنا بخطاب للتطمين يتعالى على حقيقة الجرح والفاجعة، ولا خدعنا أنفسنا بواقع هش يعيشه بعض شعبنا في مناطق الظل والهشاشة، وكل ما فعلناه أننا تعالينا على جرحنا ومن واجبنا أن نباشر تضميد الروح، على الأقل اعترافا بصبر شعبنا هناك ، فوق الجبال وتحت الأنقاض، وتقديرا منا لمسؤوليتنا في الواقعة ثم في تجاوزها في أفق أفضل..
امتحان الجدية الكبير..للارتقاء لمرحلة جديدة
يشتغل المغرب بسواعد أبنائه وبعقل ملكه، في انسجام تام، تتكرس فيه كل القيم.
أولا، لقد وقفنا، على القيم التي أشاد بها الملك، في ما يشبه التنبؤ، في خطاب العرش منذ نهاية يوليوز .
قال الملك بأن المغاربة معروفون بخصال الصدق والتفاؤل والاعتزاز بتقاليدهم؛
المغاربة معروفون على الخصوص بالجدية والتفاني في العمل، وكذلك وجدناهم، وجدنا الصادقين منهم على ما وصفه ترجمان أخلاقهم الملك محمد السادس.
وكما قال جلالته نحن في حاجة إلى الجدية للارتقاء الى مرحلة جديدة..! لقد وقفنا على هذه الجدية..في عمل القوات المسلحة الملكية وقوات الدرك والمجتمع المدني والهيئات المسؤولة..
لقد كرس المغرب، كدولة، تقاليد الامبراطوريات العريقة كما تجسدت فيها نماذج الدولة – الأمة، القادرة على تطوير نفسها، بل لن نجازف بالمغامرة إذا قلنا إن المغرب وضع عتاقتَه في خدمة أساليب الحكم التشاركية وفي تنشيط الدولة الحديثة بأخلاقه العريقة.
وكان عهد محمد السادس نموذجا «للحكم بواسطة التنقل»، كما يقول علماء الأنتروبولوجيا السياسية، وهو أسلوب مغربي، وإن لم تتم دراسته بالشكل الكافي عند الآخرين. ومن هنا نتعلم أن لوجيستيك التنقل والسفر والرحلات السلطانية جزء من تدبير التراب في حروبه وفي سلمه وفي مواجعه ونوائب الدهر …
تنقل الملك؛ ليس تعبيرا عن السلطة والحكم، ولا فقط تعبيرا عن الحضور حيث يكون الحضور دليلا على مفهوم ما للسياسة، بل هو من صميم الطابع العريق المرافق لأمير المؤمنين، والجمع بينه وبين سياسة القرب الديموقراطي والفاعل…. كان السلطان يوفد من يدرس الأوضاع والمجالات ليحل بعد ذلك بمعية الجيش وأطر الدولة وينظم وصول الأفراد والتموينات وتخزين المواد الأساسية.. وهذه الدولة ـ الأمة التي تحدث عنها خطاب العرش دوما في حال حركة وتعبئة.
هناك تلاقٍ، في أعلى الأخلاق وفي باطن الأرض وفوقها، من أجل خدمة البلاد بجدية تشيع الثقة وتشيع قيم العمل والحكامة .. والصبر.
إن الدولة يقول حكيم فرنسي معاصر ريجيس دوبري «صبر طوييييل»:
وكان على أبناء جلدته أن يستحضروا ذلك، أما المغرب والمغاربة فقد أبدعوا في الصبر كما في الحزن كما في العمل كما في عزة النفس.. ولنا ما نفعله بهذا الزلزال … صدقونا!!

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 13/09/2023