كم هو سعيد الحظ، هذا الفساد!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

الفساد في المغرب سعيد الحظ!
أولا، لأنه لا يعيش إلا في نعيم الأثرياء!!!
وثانيا، هو لا يُحدِّث عن نفسه إلا إذا ضمن مصادفات فرحة لأخباره. والمصادفة هنا، هي القدر عندما يرفض الكشف عن هويته!
هكذا يحدث عندنا الفساد عندما نكون على رأس مبادرات، عربية أو قارية أو دولية!
ولهذا أيضا فمن سوء حظنا نحن، أنه كلما انتبهنا إلى التزامن بين التزامات المغرب الدولية والقارية في محاربة الفساد وبين وقوع حالات مثيرة في المغرب، كلما تكاثرت… هاته المصادفات!
آخر ما يحدث لنا، هو انفجار قضية «إسكوبار الصحراء»، وما حملتْه مجاريه من ملفات تخص جزءا من النخبة في البلاد، في توقيت دولي، يزيد من مسؤولية البلاد في محاربة الفساد.
يحدث ما يحدث في البر الأقصى، وقد حظي‮ ‬قرار المملكة،‮ متابعة إعلان مراكش في منع الفساد، ‬بدعم واسع النطاق داخل الأمم المتحدة،‮ و‬برعاية مشتركة من قبل عدد كبير من الدول الأطراف في‮ ‬الاتفاقية،‮ ‬لاسيما الدول الخمس دائمة العضوية في‮ ‬مجلس الأمن‮ (‬الولايات المتحدة،‮ ‬وروسيا،‮ ‬والصين،‮ ‬والمملكة المتحدة،‮ ‬وفرنسا‮)‬،‮ ‬والاتحاد الأوروبي‮ ‬بأعضائه الـ 27،‮ ‬وعدد هام من دول مجموعة الـ 77،‮ ‬ومن إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا ومنطقة البحر الكاريبي‮ ‬وأوقيانوسيا وشرق أوروبا‮.‬
والإعلان في تعريفه الدولي «قرار تأسيسي يبرز أهمية الوقاية في‮ ‬نظام مكافحة الفساد‮».‬
ما يحدث اليوم، أبعد من توفير شروط المحاكمة العادلة لأسماء وازنة راكمت الثروة الهائلة (نتحدث عن أنهار من المال وليس فقط عن صناديق!) وكانت طريقها إلى التمثيلية السياسية والتعبير عن جزء من الهوية الرياضية للبلاد، إضافة إلى توريط ممثلي مؤسسات مفصلية كالأمن والقضاء والدرك، عبر أشخاص محددين تشخصت فيهم المسؤولية والمؤسسة، وقد تتفردن فيهم الجريمة والعقاب!
اللائحة طويلة طويلة طويلة..
بعضها بدأ قبل فصول قضية «إسكوبار الصحراء»، والتشبيك الذي قام به على قاعدة التهريب والمخدرات والجريمة العابرة للقارات، وبعضها يتكرر مثل ملهاة، كما في حالة رئيس جهة الشرق، الذي سارت بقضيته أمام محكمة الجرائم المالية بفاس كل ركبان السياسة والإعلام.
والذي نتابعه ليس قصة إضافية عن الثراء المثير للشبهة والانتقال من مجال نقدي صرف إلى مستوى البرلمان، ما نتابعه هو معاينة مادية لتخوُّفين اثنين سبق أن تم التنبيه إليهما هنا:
أولهما، قدرة أموال المخدرات على صناعة التنقيب السياسي التكميلي، وبل محاولة»تطبيع» أخلاقي معه بذراع تلغي المحاسبة والعقاب.
ثانيهما، هو إعادة النظر، إن لم نقل التشكيك، في العلاقة التي تربط المواطنين بالسياسة، أو في العلاقة السياسية بين المواطن ومؤسسات بلاده، وبالتالي إعادة النظر سلبا في طريقة ممارسة المسؤولية!
ماكان لهذا الملف أن ينال الكثير من الصدى لو أن الأمر وقف عند (الحاج!!) «إسكوبار»، والدليل أنه يقبع منذ أربع سنوات وراء القضبان، ولا أثار سجنه حديثا لو لم يثبت شراكة آخرين معه، يتحملون مسؤوليات…
وإذا لم يثبت، إلى حد الساعة، أن لِما تم من شراكات ثنائية خاصة عواقب سياسية، فإن من المحقق أن تعميم صورة مسؤولين سياديين وسياسيين مقتادين إلى مخافر الشرطة لأسباب تتعلق بالتهريب والاتجار بالمخدرات والغش والنصب وما إلى ذلك، يسيء حتما إلى التنمية وإلى الاستثمار:
كيف يكون موقف المستثمرين في الجهة أو في المؤسسات الأخرى عندما يكون أحد منافسيهم يملك السلطة والقرار في توقيع وثائق الاستثمار، ويكون ذا موقع سياسي؟
يسمى هذا زنا المحارم … الديموقراطي، المفضي إلى «العرقلة المقصودة للاستثمار»!

كما أن الآثار الأخرى، لن نجد لها وصفا أفضل مما قاله ملك البلاد نفسه للقارة ولنا منذ 2018 : الفساد أكبر عقبة ووسيلة محاربته هي الصدق السياسي، وقد قالها ملك البلاد بلا لف ولا دوران وبالسيادة المملوءة بالأخلاق «الفساد يشكل أكبر عقبة، ومحاربته صميم الأولويات ووسيلة ذلك الالتزام السياسي الصادق والجهود المخلصة «.
هل كان من الممكن أن يقول ملك بلاد تسير بصعوبة على طريق النمو الشاق، وطريق المؤسسات الصعبة، وبنموذج تنموي مصاب بثقوب الغاية وثغرات الوسيلة.
هل كان من الممكن أن يقول كلاما آخر؟ طبعا، ممكن لرئيس دولة وملك أن يجد خطبة أخرى للحديث إلى قمة إفريقية ويتحدث إلى شعوب القارة ومنها شعبه ونخبة القارة ومنها نخبة بلاده..وأن يجد الكثير من الكلام الذي يقول أشياء أخرى ذات أهمية وذات أولوية وتشكل عقبة،
لكنه اختار أن يعنون كلامه في رسالة موجهة إلى القمة الـ 31 للاتحاد الإفريقي، بالحديث من صميم شعار القمة
وليس في حواشيه، وليس بلاغة تسويغية ما قاله عن الالتزام السياسي الصادق، المبادر، الذي يتجاوز تدبير الطموحات إلى تدبير الاستعصاءات القاهرة للدول والشعوب والقارات.
وقد قال جلالته كلاما من هذا القبيل، لنا هنا، من تحت سمائنا ومن داخل مؤسساتنا وضمن الأعراف الدستورية والتاريخية للملكية.
ولم يختر الطريق السهل أبدا في الحديث إلينا عن رعب اسمه الفساد، ونخب تنقصها جرعة كبيرة من الإخلاص والصدق…
ونحن لا نقف عند النص القانوني أو الدستوري، بل لا بد من منظومة قيم عادت بقوة في الخطابات الملكية، إذ لا نحارب الفساد بالخبرة ولا بالمهارات، فقط، بل بالصدق ككل، ولا نواجهه بالوصفات وبالدبلومات بل بالإخلاص وبالتعاون…
لهذا لا أعتقد بأن الفاسدين تنقصهم الملكات العقلية أو الذكاء أو المهارات الفارهة أبدا، ينقصهم الصدق، اللهم إلا الصدق في الإفساد طبعا، وهو ليس صدقا من قلب الكتب السماوية أو الأخلاق الإنسانية أو الأعراف الحضارية، هؤلاء الذين «إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون»، الذين يستطيعون أن يحولوا سلم القيم ويجعلوا أنفسهم أنبياء الإصلاح، الذين يستعصون على أي زلزال، ويدفعون إلى الغضب وإلى السجون وإلى الأحكام المكبلة للطبقات كلها من أجل أن يستظلوا بالدولة وبالسياسة وبالطبقات وحتى بالله سبحانه وتعالى، كي يضمنوا بقاء الفساد وبقاء سلالته، وعائلته المقدسة في كل نفس حي…
يكفي هذا العبد الفقير إلى رحمة ربه أن يقرأ الخطاب من عنوانه البارز، الفساد يشكل أكبر عقبة تعيق جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية مما يستدعي وضع محاربته في صميم الأولويات.
لا سبيل إلى إنجاح هذا الورش، إلا من خلال التزام سياسي صادق وتضافر الجهود المخلصة، والباقي تفاصيل عالية الأهمية لكنها تتفرع عن هذا الأُسِّ وتنبع من هذا الجوهر. إنه خطاب يحرض على الإصلاح والسمو والتعالي، والتمسك بالجوهر الذي من أجله تكون الالتزامات. خطاب يرسم طريق الإصلاح والصلاح ويقرع ناقوس الخطر الذي يتهددنا ويتهدد مجهودنا الوطني.
وفي نفس السياق، فالحكومة معنية من حيث تكوينتها البشرية، واعتماد المحاكمين من أغلبيتها( كما قد تكون المعارضة معنية كذلك )… وفي كل مرة يصدر تقرير عن الفساد تتلقى ضربات متتالية تمت بصلة إلى الثقة فيها ودرجة الفساد، بحيث نقول إن الامتحان المزدوج لحكومة تجاوزت السنتين من عمرها قد فشلت فيهما بنسبة كبيرة…
يجب أن نُعظِّم السلام للسيد رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، محمد بشير الراشدي، وهو يتكلم بلغة واضحة ومريحة عن صمود» الفساد في السنتين الأخيرتين في المغرب»، وهي مدة الحكومة … لقد قال الراشدي في غشت من السنة الماضية، متأسفا، إن ما تحقق في مضمار محاربة الفساد سنة 2022 غير مرض.. وأكد أن « المملكة لم تحسن تصنيفها في هذه السنة وفي السنة التي قبلها، بل على العكس من ذلك تراجعت في الترتيب…» .
وبخصوص الثقة فقد جاءت الحكومة في مرتبة متأخرة أيضاً، إذ يراها 80 في المئة من الشباب بمفهوم سلبي مقابل 16 في المئة أبدوا ثقة إيجابية بها، حسب دراسة ميدانية أعدها مرصد الشمال لحقوق الإنسان (منظمة حقوقية مدنية)، بالتعاون مع مؤسسة «فوتير إيليت» (نخبة المستقبل)، بالرغم من أن ذلك لم يلق ما يجب أن يلقاه من اهتمام، لا سيما تحت قبة البرلمان، بحيث لا أحد ربط بين المدة التي مرت على الحكومة الجديدة والسنتين المعنيتين في كلام الراشدي…
هذا الكلام ذكرني بما سبق أن أثرته منذ سنتين بالضبط تحت عنوان «الثقة والفساد في النموذج التنموي الجديد»، وقد سبق للعبد الفقير لرحمة ربه أن ربط بين الفساد وأزمة الثقة والتقرير التنموي، في مداخلة أمام أعضاء اللجنة المعنية ثم في المتابعة الصحفية التي تلت نشر التقرير.. حيث أذكر أن الفساد ورد 3 مرات فقط في نص الوثيقة الذي سلمته اللجنة لجلالة الملك في ماي 2021…
وسبقت الإشارة إلى سيادة أزمة الثقة، اصطلاحا ولغة ونسقية، على تقرير لجنة بنموسى، وذلك من الشعار إلى تفاصيل المقترحات التي جاء بها.
وقد تكررت كلمة ثقة، سلبا أو بالدعوة إلى إعادة بنائها،41 مرة.. مقابل ذلك، فإن الفساد، لم ينل حظه من اللجنة سوى 3 مرااات!
وفي السياق ذاته، وخلال أشغال الدورة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي خصصت لموضوع مكافحة الفساد، سجل رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، في كلمة باسم المغرب خلال هذه الدورة التي عقدت بصيغة افتراضية من 2 إلى 4 يونيو، أن الفساد «أصبح أكثر تفشيا وتعقيدا، وتأثيره أكثر حدة على اقتصاد الدول بحكم اختراق المفسدين لكل ثغرات أنظمة التدبير العمومي واستغلال الإمكانيات الهائلة التي يتيحها النمو التكنولوجي وتطور الآليات والشبكات المالية العالمية. «…
تعبيرات الفساد على قلتها وردت إحدى المرات على لسان مواطنين، أي كتعبير من مشارك في الحوار الوطني…وهو بذلك وصف حالة جاء مقترنا بالموضوع المتعلق بالغش الضريبي.
وتقول العبارة المواطنة إن»الفساد والغش والمحسوبية في تحصيل الضرائب هذه هي المشكلة.»( انظر الصفحة 20 من التقرير).
وفي المرتين الأخريين، وردت كلمة فساد، مقرونة بسياق أوسع…
والملاحظ أن العبارة شاملة تتحدث عن «المناطــق الرماديــة وجيــوب الفســاد والمصالــح الفئوية»، وهي تصف مقومات وضع « إطار لترسيخ الثقة والمسؤولية» كما تم التنصيص عليها في ص 64.
ووردت الكلمة مجددا عند الحديث عن تأمين المبادرة المقاولاتية، ضمن عبارة «بــؤر العرقلــة وعــدم الثقــة والفســاد» وما يصاحبها من نقــص الشــفافية فــي قواعــد اللعبــة الاقتصاديــة…
والواضح أن العلاقة جدلية بين الفساد والتراجع والخصاص المسجل في الثقة، تجاه جميع مناحي الحياة.. العامة.
ومن الواضح أيضا أن اتساع رقعة الفساد هو أحد الثغرات الواسعة التي تتسرب منها أزمة الثقة في مكونات البلاد وسياساتها ومبادراتها…
نظام ورجال‏ un systèmes et des hommes….
هو « الشــعور بالانتمــاء إلــى أمــة تعــد مــن بيــن أعــرق الأمــم في العالــم»، والذي « يشــكل أحــد الدعامــات لبنــاء مســتقبلنا المشــترك»، يمكنه أن يقفز على وقفة مطولة ونسقية حول معضلة الفساد؟..
والوضع الحالي يعد الشروط لإخراج يساير إرادة ملك البلاد في تطهير الدولة والإدارات والحقل السياسي ومراكز القرار من كل أنواع العرقلة والتعطيل، هل نخلق شروطا كافية بالفعل كي يحدث « التــوازن بيــن دولــة قويــة وعادلــة ومجتمــع قــوي ودينامــي».
كيف يمكن للفساد والمفسدين ألا يسقطوا المشروع النهضوي الكبير والتنموي غير المسبوق؟
ألا يستحق بالفعل اقتراحات تتجاوز الإرشاد القانوني إلى تفكيك بنية الفساد والمفسدين، وتقوية المجتمع وتقديم المساعدة له لأنه في خطر؟
في مجتمع يتهدده الفساد والمفسدون، تدرك الدولة القوية، بعد قرون من إضعاف المجتمع، أن قوتها وقوته ضروريتان للمستقبل، ومتلازمتان لبناء زمن مغربي آخر، بل هي التي تعمل على تقديم مساعدة لمجتمع في خطر؟
لقد عاش المغاربة مسارات قضائية وأخرى سياسية، كان محورها الفساد بكل تجلياته، وراكم المغرب تجربة غير يسيرة في مجال إعلان الحرب على الفساد، والمفسدين، كما أن فضاءه الوطني العمومي يعرف مركزية شبه ثابتة لهذه الموْضوعة ، وقد أشار التقرير إلى أنه « وعلــى امتــداد مراحــل إعــداد هــذا التقريــر، تــم التعبيــر بشــكل صريــح عــن العديــد مــن الانشــغالات لدى كل المشاركين، المواطنــون والأحــزاب السياســية والفاعلــون المؤسســاتيون والاقتصاديــون والشــركاء الاجتماعيــون وممثلــو المجتمــع المدنــي والهيئــات الكبــرى»، فهل يكون الفساد قد حظي باهتمام لا يزيد عن ثلاث مرات، في نفس الوقت يبقى فيه الريع، «هو أعقل أشكال الفساد وأكثرها قانونية؟».
المواطنون، ومعهم كل القوى الحية وأقوياء النفوس، يعرفون أن الفساد يتجول الآن، يحمل نماذج أخرى غير نموذج التنمية الذي اتفق عليه الجميع وثمنه الجميع وشكره الجميع، من أبسط مواطن إلى أعلى هرم السلطة، اليوم يتعرض لتحرش سياسي من المفسدين، ويعرفون أن الدخول إلى تفكيكه من الداخل يمر عبر إحدى الأدوات الأساسية لعمل المجتمع أي السياسات والديموقراطية والقضاء. ازداد منسوب العجز في الثقة، مع ما تعرفه البلاد من موجة تضخم وغلاء وتلاعبات، ومن انتصار القوة والمال على مطالب فئات واسعة في البلاد.. وازداد منسوب العجز في الثقة عندما تابع المغاربة العجز «الطوعي» للحكومة في تدبير البلاد ومحاربة المضاربات والاستنزاف عبر تقليص هوامش الربح لدى كبريات شركات التوزيع في المحروقات…
كما ازداد منسوب عدم الثقة عندما تابع المغاربة القوة التي يملكها الفاسدون في مجال حصري وحيوي من قبيل انتصارات المونديال، وكيف أفسد المفسدون الفرحة عبر الاغتناء البهيمي والمجنون من التذاكر.
ومن أفدح ما يقع اليوم هو محاولة التطبيع مع الفساد بمقتضى المصلحة الوطنية!!!
ويتم الافتراء على الروح الوطنية لحماية الفساد وعدم متابعة المفسدين بدعوى أن المغرب يتعرض لاتهامات باطلة حول إفساد برلمانيين أوروبيين، لا يجب أن نتابع المفسدين هنا حتى لا نقيم الحجة على فسادنا!!! وعلينا!!!
ولم يسبق أن حشر أحد الوطن في معادلة لا أخلاقية بهذا الحجم كما يفعل أصحاب المال والسياسة اليوم في قضية التذاكر، وفي قضية الأسعار والثروات الفاحشة الخاصة بالمحروقات…

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 27/12/2023