(لعْدول) رهان ناجح على تقليد أعيد ابتكاره : من رجل دولة إلى …منافس للموثقين العصريين!

ترجمة عبد الحميد جماهري

كل النظام العام الاسلامي يدور حول وجه الْعدول( ج.العادل). فهو ، في جهاز الإداري يعد شخصية محورية بنفس اهمية (لمْقدم) و(الطَّالب) و(النَّايْب ـ عن اراضي الجموع) واكثر ولا شك من القايْد . فهو الذي يدوِّن الحصول على المِلكية وعلى الاقتران بالنساء والذي يعطي شرعية للإراثات ويوثق كتابيا الشهادات التي تحل وتعقد أمور الجماعة. وهو الشخصية الوحيدة التي ذكرت في القرآن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ للَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ للَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ للَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ للَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ للَّهُ وَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ـ البقرة الاية 282))..
ومن أجل أثبات مركزيته في النظام الشرعي يكون من المفيد أن نتتبع آثار حضوره في التاريخ حيث يبدو في الغالب كرجل دولة .
تاريخانية العدول

ومن رسالة للصدر الأعظم أحمد بن موسى التي أرسلها في 26 يناير 1897، الى صديقيه محمد السدراتي السلاوي ومحمد عبَّار التطواني نستشف: اختيار السلطان لهما لأ جل مهمة جد هامة دينا ودنيا، وقد اختارهما حسب الرسالة «لما علمه من ذكاء ومهارة لديهما» لا سيما فيما يتعلق باختيار اشخاص حَذِقين وملتزمين بالدفاع عن الدين من خلال « قضية الحدود التي تفصل بين بلاد القبائل التابعة لإمارتنا السعيدة والقبائل الشرقية الخاضعة للحكم الفرنسي(…) ويستفاد من الرسالة أن « عديد شكايات جاءت من المنطقة الشرقية وليس هناك إمكانية للتأكد من صحتها، فتم الاتفاق بين ممثل المخزن في طنجة والقائد المرسل من فرنسا لأجل تحيين الحدود المتفق عليها بين الطرفين بحضور القائد احميدة شرقي وترسيم حدود المناطق التي لم ترد في الاتفاق السابق. بحضور وموافقة نبلاء وأعيان المنطقتين. وهو الاتفاق الذي يجب أن يكون موضوع وثيقة عدلية تلزم الطرفين ، (…) اللذين يوقعان على الوثيقة. والتي تحمل خاتم القائد الفرنسي والحكومة المغربية. والهدف الأهم من الرسالة هاته هو التنبيه الى أنكما ليستما معيَّنين كمُجرَّد عدلين، ودوركما لا يقتصر فقط على تسجيل ما يقال لكما. بل ان مهمتكما هي أن تكونا أمينيْن( ج. أمناء) خبيرين في ترسيم الحدود بتدقيق معالمها وعلاماتها وأسمائها التي لا تنحمي مع الزمن وتحديد مسافات هذه الحدود سواء كانت محل اتفاق او التي تم الاتفاق عليها بحضوركم وعليكما ان تكونا يقظين ومنتبيهين الى اي غموض لا يأبه به العامة ، شفويا كان أو كتابيا… ولا بد من ملاءمة المبادلات مع الخصم مع قوانين السياسة وتفادي الحيل والاحابيل التي لا يمكن تداركها بعد توقيع الاتفاق» ..
وهذه الوثيقة تبيِّن حكاية عدلين من العدول الحضريين، الاول من سلا والثاني من تطوان مكلفان بمهمة من طرف السلطان عبد العزيز من اجل الاشراف والتدوين الكتابي لرسم الحدود الشرقية للمملكة. وهي منطقة الرحلة اليها رحلة طويلة ومضجرة: من طنجة يجب ركوب باخرة الى مليلية ومن ثمة مواصلة الرحلة برا الى الحدود. والمهمة دقيقة تتطلب الذكاء والمهارة لأن الوقت عصيب ولَعْدول، بذلك، اذا قرأنا بين السطور الرسالة الطويلة للرجل القوي وقتها ، يوجد مستقبل البلاد بين أيديهما. فالسلطان مولاي عبد العزيز ووزيره باحماد يشعران بالحصار كما يوحي بذلك وصف المصورِّ الخاصِّ لمولاي عبد العزيز بالكآبة. والحدود بدورها تخضع كل يوم للامتحان من طرف الاختراقات الفرنسية. وهناك نوع من سوء النية والمكر من طرف العسكريين الفرنسيين الذين أصبحوا خبراء في التحكم في ما هو «عربي» لغةً وبشرًا، أكثر مما هي قضية عدم تلاؤم الرؤية في فَهْم معنى الدولة.
هذه الرسالة جزء من مُصنَّف وضعه خالد بن الصغير رهن إشارتنا. وعلاوة على عدم التماثل بين القوَّتين، والأحابيل والضربات تحت الحزام، المُعْتادين في تلك الأوقات الكولونيالية، فإن ما يثير الانتباه عند قراءة هذا المتن، هو الجهد الكبير المبذول وطاقته في مواجهة هذه السيل من الغش والتعليمات و التهديدات. وما يشدُّ الانتباه كثيرا هو البساطة بل السذاجة التي يظْهرها المسؤولون المغاربة بارتباطهم اليائس بنوع من مدونة شرف متجاوزة وبقانون دولي لا يدركون كنه منطقه. ولقد رأينا من قبل ما يقوله لنا هذا النص عن كيفية تصور السياسة و التراب الوطني والسيادة وعن التمييز ، المُشْبع بالفوارق الرهيفة بين بلاد القبائل وبين الإمارة الشريفة ، وعن الحالة الذهنية للبيروقراطية الشريفة وعن الصلاحيات المتعلقة بتحديد التراب الوطني. وهذا يهمنا هنا لأنه يضع في المشهد ، شخصيةً تُعدُّ راهنا مركزيةً في النظام القضائي المغربي شخصية هي نقطة امتداد في الادارة من بين الأكثر اهمية فيها ،إِنْ لم يكن أكثرها أهمية اذا ما نحن أخذنا بما يقوله الغزالي … وهوالذي ينفي عن الجماعة المنظمة أيَّة مشروعية في غياب العالم والقاضي ولْعدْل والذي يكْمنُ دوره في تدوين وتوثيق كل العقود المهمة حسب قواعد الشرع الاسلامي.. فلا زواج ولا إراثة ولا هبة ولا وصية ولا نقل مِلْكية ولا تَحْبيس ولا اعتناق للاسلام ولا بيعة بدون حضوره ! ف(لْعدول) يمثل الشاهد النموذجي الذي تحدث عنه القرآن.. غير انه في الوقت الذي صار العدل (المأذون ) في مصر شخصية سينمائية مخاتله وبلهاء ، نجد انه في الغرب الاسلامي ما زال شخصية عادلة،ورجل استقامة وخير…
ان مركزية العدل في الثقافية القانونية المغربية هي ثمرة تمازج مرجعين.( انظر جاك بيرك بخصوص التراكب المرجعي في القانون المغربي ). المرجع الاول يحيل على القانون العرفي الجاري به العمل في القبائل. وهو قانون يرتكز على الشهادة التضامنية ( اليمين الجماعي ) باعتباره طريقة في تدبير الحجج.
والثاني ينجم عن تكييف القانون الاسلامي مع الثقافة المحلية ، مما يعطي طابعا رسميا ومهنيا للشهادة. وهذا ما كتبه بيرك في الموضوع: «إن الشهود ، في الفقه هم أناس يقدمون، عند كل خلاف بعض الوقائع ويشهدون على بعضها الاخر والذين تخضع اقوالهم لامتحان الصدقية. بيد أن الامر يختلف في حقيقة الواقع المسطري في المغرب الكبير، بمجرد ألا تتضمن مساهمة رجل الخير (العدل) والذي قد صار محترفا بمعنى التوثيق الإجرائي بل تكون مساهمة »جماعة« او» حشد« من المتدخلين ( اللفيف العدلي) الذي لا يمكن لأي نظام انتقادي أن يهيئه للعب هذا الدور. هل يمكن للقاضي ان يأخذ بعين الاعتبار شرعيا أقوالهم؟يجب الحذر من ذلك. فالأمر لا يتعلق بصدقية الأمر ولا بالحقيقة حتَّى، بل بالتضامن وبالأثر الذي يتركه العدد. وهو وضع غريب يبدو مناقضا لأبسط انظمة الشريعة. وفي الواقع، ليس بدون مقاومة استطاعت هذه العقيدة ان تجد لها منطقا للوجود، بل استطاعت ذلك بناء على الحجة المتشائمة التي تقول بأن هناك اوساطا يكون فيها المشْتكون عاجزين عن تقديم شهود(عدول)».
وبالبرغم من كل الدُّرْبة والدِّقة التي أبان عنهما «بيرك« في فهمه للثقافة القانونية المغربية ، فإنه مع ذلك يظهرهنا انزعاجا عميقا، هو انزعاج موظف من موظفي الحماية يعجز عن فهم تصور المغاربة للقانون الذي ينبني على التناقض بين الشهود والذي يراهن أكثر على نزاهة وصدقية (الْعدل) ، المأهَّل الوحيد لتوثيق الشهادات ، اكثر مما ينبني على انسجام نظام قانوني له تراتبية محددة.
راهن العدول

كان من الممكن أن نعتقد بأن خلق مهنة الموثِّقين، المرتبط برحم الدولة الوطنية ، ستدق أجراس النهاية للـ«عْدول»، لكن شيئا من ذلك لم يقع. انهم اليوم 5 الاف «عادْل» كلهم من الذكور.. وبعد السجالات التي عرفها فتح المهنة في وجه النساء (وهو بوليميك رأى النور لما كلف الملك، في مجلس للوزراء انعقد في 22 يناير 2018 في القصر الملكي بالبيضاء، وزير العدل محمد اوجار بفتح المهنة في وجه النساء واتخاد الاجراءات الضرورية لتحقيق هذا الهدف ، وهو القرار الذي تلى موافقة المجلس الاعلى العلمي… ورافقه انتفاض العديد من العلماء ولا سيما السلفيين منهم امثال الكتاني ضد هذا القرار….). (بعد السجالات) أعلن الوزير عن نتائج المباراة يوم 21 يوليوز 2018، حيث نجحت 299 موثقة من أصل 7443 مرشحة اي بنسبة ثلث فوج 2018.
والْعدول، كما ذكر ذلك مقال في «ماروك ايبدو» أعاد نشرَه موقعُ juristique‪.com هم «عيون وآذان القضاة يقومون بدور كتابة الضبط والتوثيق ومكلفون بتسجيل التصريحات والاحكام». وحضورهم المكثف في صناعة النظام القانوني لا تقف عند البُعد التوثيقي ولا عند العلاقات العضوية التي يقيمونها مع قضاة التوثيق، الذين يشتغلون لفائدتهم عبر ارشفة الوثائق التوثيقية وإنتاج الحجج المقبولة على قاعدة«اللفيف العدلي»، بل إن هذه العلاقات ينسجونها كذلك مع ادارة المحافظة العقارية بفعل دورهم المركزي في مسطرة التحفيظ العقاري بااعتبار العدل هو اول منتج لأول وثيقة للشُّروع في الحيازة..
وكما هو حال (الطالب) و(النايب)، فان العدل بدوره خاضع لبيروقراطية الدولة الوطنية وهذا لا يعني بأنه لا يُجسِّد ، عبر استعداده لاعطاء الطابع الرسمي على صناعة العقود القانونية وعقلنتها، نسخةً امبراطوريةَ للبيروقراطية ..لقد منح وصول وزير من العدالة والتنمية (المقصود هنا مصطفى الرميد) إلى رأس وزارة العدل في 2011 مكلفا بإعداد القانون التنظيمي المفترض فيه تكريس استقلالية السلطة القضائية ، (منح) نافذة تسديد لمختلف الفاعلين في النظام القضائي. وقد فتح كتاب الضبط الحفلة عبر رهان قوة مع الوزير وتلاهم (لْعدول ) الذين أنشأوا نقابةً لهم مكان مجلس الهيئة ، على غرار منافسيهم الموثِّقين، ورثة النظام الفرنسي. وقد وضعت النقابة الوطنية للعدول في المغرب كهدف لها الدفاع عن حقوق هؤلاء «الموثقين التقليديين» وتحسين ظروف عيشهم الاجتماعية. كما دعت الى المساهمة في تطوير المهنة ومواجهة الإكراهات التي تثقل كاهلها، لا سيما في العمل من أجل الحصول على حق امتلاك «صندوق للايداع» وحق الاستعمال المتنامي لتكنولوجيات الاعلام (والمعلوميات) كما ورد في تصريح رئيسها عند انشائها في 2013.. و( لَعْدول)، الذي تتم معاملتهم كما لو كانوا بقايا الماضي، فهم في الواقع يمثلون نظاما آخر، لا هو بالهاشمي ولا هو بالموازي، بل يجسدون جانبا آخر من الجهاز القضائي الذي يحيل على فهم مغاير، لكنه نشيط ، للعدالة : و مفاده أن الوضع الاعتباري للحق والقانون والدليل عبر الادلاء بالشهادة ودور واستقلال القاضي عناصر لا تُمكن قراءتها كآثار من الماضي، بل على العكس من ذلك توجد، في المخيال السياسي الذي يخترق المجتمع في، أُسِّ تصور العدالة نفسه!
إن (لْعدل) يتمتع باحتكار عقود الزواج والإراثة ويوجد ، بالنسة لكل العقود الاخرى في حالة تنافس مع الموثق وأحيانا مع المحامي . وفي هذا التنافس لا يعتبر العدل هو الأقل حظا، بل ان أثمنة خدماته ، المنخفضة دوما وحركته وقربه ميزات ينظر اليها الناس باستحسان..
ان العدل يحتفظ بوضعه الاعتباري كمساعد للقاضي لكنه يخضع منذ 2006 لنظام يجعله قريبا من الموثق (الجريدة الرسمية رقم 5400 الصادرة يوم الخميس 2 مارس 2006
ظهير شريف رقم 56-06-1 صادر في 15 من محرم 1427 (14 فبراير 2006) بتنفيذ القانون رقم 03-16 المتعلق بخطة العدالة.) وهو يمارس باعتبار مهنته مهنة حرة، طبقا لما ينص عليه القانون وكل (عدل) مطالب باحترام مباديء النزاهة والأمانة وشرف المهنة ومطالب بالحفاظ على أسرار المتعاقدين. وهو يشتغل اليوم في اطار «الهيئة الوطنية للعدول» المتفرعة الى مجالس جهوية حسب دوائر محاكم الاستئناف. ولكي يصبح (عدلا) على الراغب ان يكون من جنسية مغربية ومسلما، وانضاف اليه شرط اجتياز مباراة مفتوحة في وجه خريجي كليات الحقوق والشريعة ، يليه تكوين في المعهد العالي للقضاء ..
يتبع…

 

محمد الطوزي

الكاتب : ترجمة عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 24/06/2023