لفقيه: رجل من الجنة عاطل عن العمل..

عبد الحميد جماهري
سيفرك كثيرون عيونهم لمرات متتالية، لكي يصدقوا الخبر: فقيه متهم باستعمال العصا في «فَلَقة» قاسية لطفل، يُقاد إلى الاعتقال.
قلت في نفسي، ها هو فقيه مدرس قادم من الجنة سيبقى عاطلا عن العمل، بل سيدخل السجن، بدون أن نعرف حدود مسؤوليته ومسؤولية أسرة «المُتعلِّم».
ليست لي ذكريات خاصة مع فقيه «المسيد»، لسبب بسيط، فقد كان الجد والعم والخال، وبعدهم الجيل العائلي الآخر، من سكان المسجد الأولين…
ولسبب ما أعفوني من «المسيد» ونابوا عن الفقيه، لكن لي ذكرى ويوم واحد فقط، أو قل صُبحية واحدة، رفع فيها الفقيه عصا طويلة من زيتون مخضر. ارتسمت في مخيلتي إلى الأبد..
فخرجت لا ألوي على شيء.. وهو خبر منذور لمغرب غير مغرب الفقهاء.
مغرب يتوارى فيه الفقيه، الذي ظل لسنوات وعقود بل قرون مصدر النموذج، وهو فيه الدولة المربية وهو مدرسة صناعة النخب وهو إلى ذلك الأب الآخر، الذي يعرف، وحده، الحقول التي تُقتطع منها الهراوات في جنة لله العالية.
ذلك الفقيه، لم يعد قائما، وترك مكانه لفقيه آخر لم يعد حفظه للقرآن مبررا لكي يقوم بتثبيت العقاب على الجسد الطري لأطفال في أحضان الزهور.
شيء ما يتغير كثيرا، وعميقا، قد يكون أحد فصوله هو هذه الحكاية التي أوصلت فقيها مغربيا إلى حيث كان التعذيب إلى عهد قريب مهنة البوليس الحديث، لا مهنة الفقهاء ورثة الملائكة والأنبياء وورثة الفردوس!
ظلت مهنة الفقيه مهنة أناس يقيمون في منطقة عازلة : ما بين السماء والأرض… والسلطان.
لهذا لم يكن الملوك يجدون غضاضة في أن يربي الفقهاء الأمراء، بالتقويم بالعصا والتهديد بالترهيب والترهيب بالحق والثبات في الجنة..
سقطت العصا في دهاليز الأمن، وكان ذلك أمرا تاريخيا يحسب للدولة وأجهزتها الحديثة..
لكني أعتقد بأن سقوطها في «المسيد»، لم يزل المجتمع لم يحسم فيه، ولهذا كانت له رجة أكبر في المجتمع الواحد والعشرين..
العصا تكون إرثا من القرن الواحد.. عشر!
قرن قديم يعيش في جلباب قرن جديد.
لكن لا يجب أن نظلم الفقيه، فهو ابن هراوته.
وهو ابن الأسرة المغربية والمعرفة المغربية، رجل المرور بين تقاطع الأزقة: زقاق إلى النخبة والعلم وزقاق إلى الجنة وثالث إلى.. عالم البلوغ.
لم تكن القضية تحتاج إلى تعقيدات كبيرة ولا نبوغا خاصا: الفقيه يحبنا وبالتالي فهو يسلخنا.
وعندما يكون ذلك باسم القرآن الكريم واللوح المسطور والآيات الكريمات، يكون مبررا ويكون مستساغا، ويكون مستحبا ويكون واجبا!
لم تكن الروح الملائكية والنبوية هي الوحيدة التي تحرك فقهاءنا:كانت هناك أيضا أعطاب الروح الجماعية والتي تسوغ استعمال السادية في تربية الأجيال.
نذكر فقهاء
ومعلمين
وأساتذة.. بعضهم كان يرسم الخرائط بالقلم الأحمر الجاف في وجوهنا، وبعضهم كان يعتبر وقوفنا أمام السبورة السوداء مناسبة لا تعوض لينفض غبار الجهل عن أجسادنا الطفولية الطريفة في مشهد مغولي..
ولا نذكرهم بسوء دوما: هل طورنا، كما تقول الفرويدية المستجدة آليات مضادة antimecanisme نحب بها من يمطرنا هراوة؟
ربما
هل هي طبيعة التأرجح بين عالمين، عالم عصي وعالم شاهدناه يغرب بنماذجه …
من الحوارات التي ارتسمت في ذهني مع أستاذي في الرياضيات بمدرسة التكوين، حوار حول الضرب والعقاب البدني، وأذكر أنه طرح علينا سؤالا: هل يريدون أن يصنعوا مواطنين يحبون ذواتهم، أم يريدون تربية الكلاب، بالعقاب والترويض العنيف؟
وكان جوابنا الواضح هو نريد مواطنين.. طبعا
ثم طرح السؤال الثاني: هل تستطيعون أن تكونوا عادلين في العقاب؟
احترنا: كيف؟
والمعادلة هي: قد يرتكب تلميذان أو متعلمان نفس الخطأ، بفارق زمني معين، في المرة الأولى يكون المدرس في حالة غضب أو حالة ضيق أو متوترا، فيجتهد في عقاب المتعلم العقاب الذي يراه مناسبا وهو في الحقيقة نتيجة احتقانات نفسية خاصة به…
وفي المرة الثانية يكون المدرس في حالة انشراح أو حالة نفسية تدفعه إلى التساهل وقد يمازح المتعلم في خطأ عوقب عليه الأول أشد العقاب.
لا يمكن أن تكون عادلا في العقاب ولا يمكن أن تكون مربيا بالعنف..
ولا يمكن أن نفصل العمل الذي يقوم به الفقيه عن الآداب السلطانية عموما، والتي كانت ترى في وجوده وفي وجود «المسيد» عربونا على انتصار التقليدانية وعلى المقاومة لما تراه تهديدا للنظام القائم فكريا ونفسيا وسياسيا واجتماعيا إلخ.
ولعل الذين يعرفون قصة السي محمد شفيق، التي أخرجها للناس، مع المرحوم الحسن الثاني حول »المسيد«، يعرفون مغزى أن يكون النظام التربوي جزءا من النظام العام في المجتمع، وأن يكون المسيد المَوْطن الأول للإيديولوجيا، كما هي الأسرة والشرطة والمؤسسات الأخرى..
القضية أعمق من شعور ذاتي أو اختيار شخصي للفقيه أو أسرته بل هو جزء من عالم بدأ يأفل، ويجب أن نساعده على ذلك والإسراع بجعل حقوق الإنسان، وحقوق الطفل، تسكن كل خلايا المجتمع بما فيه المسيد…
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 04/06/2022