لم يعد الإنسان في حاجة إلى نفسه لابتكار السياسة!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
المستقبل القريب يعدنا بأنه ليس من الضروري أن تكون إنسانا، أو إنسانيا، كي تكون ذكيا، ولا أن تكون الإنسانية شرطا لإنتاج السياسة…
هذا ما سيفرح له الكثيرون، لا سيما من الذين نُعيب عليهم نقص الفكر في السياسة، مع الاكتساح الذي بات يقوم به الذكاء الاصطناعي، وبالضبط ما يسمي برنامج “تشات جي بي تي”، الذي اعتبرته الصحافة ومنها وكالة فرانس بريس..”مؤلفا جديدا في عالم السياسة”.
نتخيل أن يسلم العقل السياسي البشري نفسه إلى برنامج للصناعة الذكية، وتبعا لذلك يكون من الرفاهية أن تنتج رفيقك المناضل :”انصت إلى حاسبوك،إنه أذكى منك”.
ما دام أن هذا البرنامج سيعوض هيجل، مونتسكيو، ودو طوكفيل، ولن ونكون في حاجة إلى العروي ولا إلى نظريات الفعل عند هوبز وماركس ولا هنري كيسنجر أو طاليران Talleyrand-. ولن نغرق في أمهات الكتب.
هذا البرنامج التوليدي “يستطيع إنتاج كل أنواع النصوص عند الطلب”، وبعد أن استحلته الأوساط الجامعية والمهنية أصبحت العدوى من حظ الطبقة السياسية، بحيث بات سياسيون يستخدمونه لكتابة خطابات أو صياغة قوانين…
وفي قصاصة إعلامية علمنا أن نائبا في البرلمان الياباني قد استجوب، في نهاية مارس الذي ودعناه، رئيس الوزراء بأسئلة اقترحها روبوت “تشات جي بي تي” ChatGPT.
في فرنسا، صاغت الأداة تعديلا لمشروع قانون للألعاب الأولمبية لعام 2024.
ارتبط اسم الرئيس ماكرون مؤخرا بأداة الذكاء الاصطناعي هذه. ففور انتهاء كلمته التلفزيونية الأخيرة التي تطرق فيها إلى إصلاح نظام التقاعد، سخرت الأمينة العامة للاتحاد العمالي العام CGT صوفي بينيه من خطابه قائلة إنه “يمكن أن يكون من صنع تشات جي بي تي”.
يحاول السياسيون الذهاب بعيدا في “علمنة” الكسل الفكري عن طريق اغتنام “الإمكانيات التي يوفرها روبوت المحادثة هذا الذي ضم أكثر من مئة مليون مستخدم نشط في بداية العام بعد شهرين فقط من إطلاقه”.
وبدأنا نسمع أراء الخبراء والمحللين، من أمثال الأستاذ في علوم الإعلام في جامعة تولوز باسكال مارشان، أن أدوات الذكاء الاصطناعي مثل “تشات جي بي تي قادرة على توليد خطابات متماشية مع الأيديولوجيات السياسية التقليدية”! ولسنا ندري إن كان الخبراء يصرحون بما هو من بنات أفكارهم أو بما ينقلونه عن البرنامج إياه، وما هي حدود الاستعانة بالبرنامج نفسه في إنتاج تعليقاتهم؟
ومن الواضح أن التصنيفات الأيديولوجية والفلسفية ستطال البرامج:
هذا “تشات جي بي تي ليبرالي، كما يتبين من رأي الخبراء الذين قالوا بأن البرامج الذكية من هذا النوع “غير قادرة على الابتكار”، وبالتالي فهي “أقل أهمية بالنسبة للأحزاب التي ترغب في التكيف مع الوضع الراهن والتوافق مع العصر”.
وهذا “تشات جي بي تي محافظ، كما في نيوزيلندا، حيث صمم الباحث ديفيد روزادو روبوت “رايت وينغ جي بي تي” RightWingGPT ” لإنتاج تصريحات محافظة داعمة للأسرة التقليدية والقيم المسيحية والسوق الحرة،”.. كما يليق بكل محافظ في القرن الواحد والعشرين!
وهذا “تشات جي بي تي تقدمي اشتراكي كما يتضح من الخبر الذي يقول بأن الصين تريد برنامجا يحافظ على القيم الاشتراكية الصينية المتميزة، حيث تعتزم بكين “إخضاع أدوات الذكاء الاصطناعي لإجراءات تدقيق مدى التزام محتوياتها بالقيم الاشتراكية الأساسية”.. ومن جهة أخرى،
حاول مؤسس موقع الصحافة الساخرة البلجيكي “نوربريس” NordPresse ، المعروف على شبكات التواصل الاجتماعي باسم «فليبوستييه»، تطوير برنامج”ذكاء اصطناعي ماركسي” باسم “تشات سي جي تي” chatCGT مع شقيقه في بداية العام الحالي.
يقول لوكالة فرانس برس إن عمل هذا البرنامج “بدائي إلى حد ما” إذ يعيد توجيه أسئلة مستخدمي الأنترنت إلى تشات جي بي تي” مع إظهار إشارة مفادها أن الإجابة ستأتي “كما لو قالها نقابي غاضب”.
ومن المنطقي أيضا أن تكون هناك برامج شعبوية جديدة قادرة على التخلص من البشر الشعبوي، وتعفيه من بذل المجهود الضروري لذلك، سواء في إنتاج النصوص أو إنتاج الخطب، بل يعدنا أصحاب هذه البرامج بإنتاج “ممتاز لنصوص شعبوية”…
إن الخلاصة هي أن الإنسان لم يعد بحاجة كبيرة إلى نفسه لإنتاج الأفكار السياسية والنصوص الأيديولوجية، كما أن المثقف العضوي سيترك مكانته الحالية للحاسوب العضوي، القادر على إنتاج النظرية اليوم على أساس تحقيق الممارسة غدا..
وداعا يا نحن وقليلا من التواضع يا أيها البشري: انصت إلى حاسوبك إنه أذكى منك!
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 29/04/2023