ليبيا،غزة، والساحل: أسباب رغبة الجزائر في أن «تخسَّرْ اللعب»!

عبد الحميد جماهري
أحيانا يجب أن نجرب «فهم» العسكر الجزائري بمحاولة تشغيل نوع من التمرين المنطقي... لعل وعسى!
ويكون علينا أن نتجاوز الحركات العبثية التي يعتبرها ممارسة سياسية: كأن يعلن المرشح الرئيس،عبد المجيد تبون، في تجمع انتخابي تنقله كل منصات الأخبار في العالم، أن اقتصاد الجزائر هو الثالث عالميا من حيث الترتيب!
لا روسيا تنافسه ولا اليابان، لا الاتحاد الأوروبي ولا ألمانيا، لا «البريكس» الذي حاول أن ينال شرف العضوية فيه بلا جدوى، ولا دوله، ولا آسيا ونمورها، لا أحد بعد الصين وأمريكا سوى بلاد شنقريحستان!
أو كأن يدفع بعضو انفصالي إلى حمل دولته في حقيبته، كما تفعل السلحفاة مع بيتها، ويدخل إلى قصر المؤتمرات في اليابان …
كل ذلك علينا أن نتجاوزه ونبحث لعلنا نخرج من هذا العبث المجنون بمعادلة ما…
فقد اعتقدت الجماعة الحاكمة في الجزائر بأن الوقت قد حان لكي تظهر قدرتها على خلق المشاكل! فقامت بخطوات تبدو ظاهريا بدون رابط بينها أو تمثل، في أحسن الحالات، أعراضا ديبلوماسية عن تخبط سياسي !
ومن ذلك الخروج السيئ للمرشح الرئيس عبد المجيد تبون بخصوص غزة.
لقد قال إن جيش الجزائر مستعد للذهاب إلى غزة!
وأنه على استعداد لبناء ثلاث مستشفيات في ظرف عشرين يوما فقط!
ولكنه اشترط لذلك أن تقوم مصر، التي ذكرها بالاسم، بفتح الحدود مع غزة !
وإذا كان من غير الديبلوماسي أبدا أن يتحدث رئيس دولة عن قرارات سيادية لدولة أخرى، مهما كانت مبررات تدخله، فإن الحديث الذي فاه به تبون، فيه الكثير من الجهالة، وفيه أيضا، محاولة إرسال رسائل، في تقدير العبد الفقير إلى رحمة ربه، يحسن بنا أن نقف عندها.
فقد كان قد ترسخ لدينا أن بعض القوى الدولية والغربية عموما، لا سيما الولايات المتحدة، تدبر النظام الجزائري بطريقة تدعوها إلى»إعطائه» دورا في السياسة الإقليمية، والموافقة على بعض المهام من مهامه في المنطقة، درْءًا لحماقاته.
ذلك ما فهمنا من الاتصالات التي تمت في أوقات سابقة بين وزارة خارجية أمريكا في شخص انطوني بلينكن وجوشوا هاريس، ومن الزيارات المتكررة لسفيرة واشنطن إلى قصر «المرادية»الجمهوري، وما دار في كل حين عن الحوار الاستراتيجي، وما تداولناه من تصريحات الديبلوماسيين الأمريكيين ومنهم نائبة وزير الخارجية شيرمان ويندي، بعد لقائها مع رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، بمقر رئاسة الجمهورية، في مارس 2022.
والحديث العلني عن «بعض القضايا الإقليمية المهمة»، والحديث عن كون أن بلادها «تتفق مع الجزائر على أن الاستقرار الإقليمي هو المفتاح لمستقبل سلمي ومزدهر لمنطقة الساحل بأسرها».
وتزايد هذا الاعتقاد بتعيين جوشوا هاريس سفيرا في الجزائر، وهو الذي يشرف على دبلوماسية الولايات المتحدة مع الجزائر ومصر وليبيا والمغرب وتونس …
ومما ترسخ لدينا، وهو قول سنجد له سندا في العديد من التحليلات والكتابات، هو أن القوى العظمى التي تخاف من تفكك النظام الجزائري وعدم استقراره تخشى تدفق الهجرات وانتعاش التنظيمات الإرهابية، وعليه ترى هاته القوى أن من العقلاني والمفيد تكليف الجزائر بمهام إقليمية حتى لا تنشر الفوضى حولها وتخلق كل أسباب التوتر في المنطقة، أو كما تقول الدارجة المغربية بكل حكمة وبلاغة «…تخسَّر اللعب»!!
ومن بين هاته المهام، نجد المبادرة إلى فتح الوساطة بين مصر وإثيوبيا، حول قضية سد «النهضة» ومياه النيل، علاوة على العمل من أجل المساهمة في حل أزمة ليبيا، والسعي إلى تغيير معادلات الساحل جنوب الصحراء، حتى أن ألمانيا قامت أيام أنجيلا ميركل باستدعاء الجزائر لحضور مؤتمر برلين الذي تم فيه تغييب المغرب، الفاعل الكبير والمقبول من لدن كل الفاعلين!
وعلى ذكر ألمانيا كانت التقارير الشهيرة الخاصة بالمغرب، التي نسبت إلى مراكز استعلاماتية أو قريبة من المخابرات الألمانية، قد طالبت بتعطيل تقدم المغرب حتى يكون للجزائر ( وتونس كذلك التي صدقت اللعبة وسعت إلى حلف ثنائي مغاربي مع الجزائر ) دور في المستقبل، بل هناك من يعتبر أن هذا هو صلب التقرير الألماني الذي تناولته الصحافة (ونحن منها) وكان موضوع خطاب ملكي…
على كلٍّ، أصبحت هذه الأدوار أو «الكاستينغ» الجيو سياسي في كف عفريت، بفعل الجزائر نفسها! وذلك بسبب تحميل مصر مسؤولية سياسية وترابية وأخلاقية في منع الجيش الجزائري من مساعدة الفلسطينيين في غزة ( وليس تحرير كما قد يفهم من سياق الحرب الحالية)، وبسبب خلق شروط التوتر الذي نشب بين خليفة حفتر والنظام الجزائري والتهديد المتبادل بالحرب . أما في الساحل وفقد وصلت القضية إلى نقطة أبعد من الخيال حينما رمت القيادات الجديدة الجمل الجزائري بما حمل وأزمت طبقة العسكر العلاقات مع أغلب الدول ..
وهي ثلاثة مؤشرات على أن نظام الجزائر يريد الإيهام بأنه «يقلب الطاولة» ، وهو الذي اعتبر نفسه قوة توازن ودولة صانعة المعادلات في منطقة الشمال الإفريقي ؟
ما الذي تغير ؟
لا بد أن قرار قصر الإليزيه بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، وتنامي دينامية الانتصار للحق المغربي، قد أشعرت نظام العسكر بأن الدول النافذة، ذات العلاقة بتدبير المنطقة المعنية ـ ومنها أمريكا حاملة القلم في الصحراء وفرنسا المكلفة بملفات شمال إفريقيا ـ لا تسايره في مواقفه من القضايا، وأن تدبير هاته المهام لا يعني شيئا ذا بال، بقدر ما يزيد من ضعف دوره في هاته المناطق. وعليه، يسعى إلى أن يمارس عكس ما هو موكول له!
كما لو يريد أن يقول: «إما نلعبوا في الصحراء وإما نخسروا اللعب في المنطقة كلها»… أو سياسة الأسوأ:la politique du pire.
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 29/08/2024