ليَكُنْ هذا الغيب مكتبةً، ولْتعُدْ إليه كتابا أنيقا

عبد الحميد جماهري

في موكب التشييع عادت إلي تلك اللحظات التي عشتها في ظلال الكتب معه، بين أركان مقر الجهة الامبراطوري، مكان الحبوس الذي يحمل تاريخ العمران، والذي يشهد طيفه اليوم وهو يزوره كل يوم.
زاد من وضوح الذكرى، وجود الشاعر الصديق جلال الحكماوي، الذي أعاد إلي بعضا من تلك العافية التي عمرت بين جنبات بناية باهظة الهندسة والألوان، والمناسبة ما تبٍقى من ذكرى الجائزة الجهوية للكتاب، التجربة الفريدة ويتيمة التأسيس، التي عمل عليها الراحل، بقوة وثبات وروح نابضة.
كانت التجربة التي احتضنها رئيس الجهة، وقتها، السي مصطفى باكوري بحدب فائق وعناية ثقافية ذكية، أحد الأشياء التي قالت ناضلت من أجلها، حتى رأت النور.
تفاصيلها، بعضها ضاع في دورة الزمن البيروقراطي، وبعضها سيحتفظ به التاريخ السري للكتاب في جهة الدار البيضاء سطات، وفي الوطن.
عشنا معه، في دفة أخرى من الكتاب تجربة نشر كتاب مصنف beau livre من النوع الذي لا يجيده سواه، عن بناية الجهة، وتم الاحتفال به، في رحاب تلك المعلمة القيصرية، بحضور حفيدة المصور الفرنسي الذي رافق وجودها، وبحضور بعض من أسر عمال البناء، الذين أبدعوا في إنتاج بناية هي بمثابة القصر المقابل لقصر المشور الملكي، ولا أصبع حديد فيها، باعتبار الحرب العالمية الثانية التي كانت تجري أطوارها وقت وضع أساساتها.
عشنا معه تجربة التوأمة الثقافية مع لوكسيتاني وليون، وكل أفراح الكتاب بين الضفتين، ومشاريع بقيت في خاطر التاريخ من قبيل الكتاب المصنف عن سطات..
وفي خضم ذلك، كان يدخل دوما محملا بالكتب، فرنسية وعربية، تاريخا وفنا وشعرا ورواية وبحثا..لا يسعني في ذلك سوى الإعجاب المستمر بقدرته الهائلة على العمل. وفي إلحاحه، كصاحب كتب وصانعها، بساطة البيضاوي الحامل لذاكرة خاصة، تجعله يؤمن بعمق بأن كل شيء يصنع هنا في «كازا» الجميلة، حتى ما يأتيه من الخارج هو استجابة لندائها الأولي العميق الذي يخترق الأزمنة والأمكنة…
لم أعرفه لزمن طويل، ولكني عشت معه تجربة عريضة، وكأني كلما صافحته تورق اليد كتبا، بأحجام متنوعة وتصطف الكلمات بين الأنامل مثل سبحة. هكذا جسد الراحل عبد القادر الرتناني مهنته، كتبيا ورجل طباعة.
أعرف أنني لم أعرف عن ماضيه الكروي، إلا ما يعرفه الزائر العابر عن مئذنة بعيدة. وحتى وإن طلبت من زميل لنا في الجريدة أن يفرد له من وقته ما يليق بسيرته الرياضية، وأن يخلد بلسانه هذا الماضي وما حققه من إنجاز يعترف به الجميع، ولكني لم أر في طيفه سوى ما يتركه الكتاب من القارات الخمس..
عشت معه تجربة ديواني الأخير، بعد أن انتهت ولاية الجهة، إذ أسبغ خيالا رهيفا في الإخراج الحميمي والرعاية العاطفية.. لربما اعتقدت بأنه كان يظن أن عملية إصدار كتاب، تشبه إلى حد بعيد عملية مقاومة، وأن إخراجه إلى الوجود يشبه تحرير أسير من أسرى الغيب..
كان لنا مشروع في هذا الغيب بالذات، لا شك أنه سيمر من طريق آخر غير الطريق الذي كان في ذهن السي عبد القادر.. الرجل نفسه الذي عشت معه في أحضان جمعية أصدقاء غوتنبرغ، إلى جانب الراحل الآخر خليل الهاشمي الإدريسي، وإلى جانب رفيقه في النجوى المستمرة عبد الرحمان محمد برادة..
هو نفسه برادة الذي كان يطلعني، مشكورا على تطورات حالته الصحية، برباطة جأش صديق دائم يعرف حجم الألم وحجم الفقدان..
أحسن ما يمكن أن أتصور اليوم لمواساتي ومواساة أصدقائنا المشتركين، هو أن يكون الماوراء مكتبة كبيرة، وأن يعود إليها كما اشتهى دوما.. كتابا أنيقا.

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 16/11/2023