مأساة مليلية: ما بين الحرب والحج والانتحار

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.com

أصعب تمرين قد يعترضك في تسجيل مآسي القارة هو أن تكون مضطرا إلى تعطيل العاطفة لكي تكتب بدون انفعال عن الفاجعة. وأن تخرج المأساة من سجلها الانفعالي وتضعها في قاموس البحث البارد والحارق وتجاور القسوة التي تحيط دوما بالتحليل الموضوعي البارد!
كان المشهد قياميا، والجثث والأحياء والآهات لا تسعف في تحييد الأعصاب لتلقي ما قد يوحي به العقل والسياسة والنصوص…
ندرك من الأصل، وفي عموم التحليل، أنه حيثما يقيم الفقر والانقلاب والإرهاب جنَّته، يغادرها الفقراء والبسطاء والمواطنون.. يرافقهم ضحايا المافيات العاملة في الاتجار في البشر وباعة ذهب الرخاء المزيف وسادة الاحتيال على يأس الناس!
يذكرنا المهاجرون، العابرون على سراط غير مستقيم بين تراب إفريقيا وأحلام أوروبا، أن الجنة توجد في الشمال، وأنها لا تزال مسيجة، ومحاطة بالحراس والسياسات…
تذكرنا بأن الهجرة حرب، ليس الأفارقة أعداء فيها، بل هو الواقع المر في القارة ولا الأعداء فيها هم الأفارقة العزل، بل الغضب المخلوط بالحلم الغابر في أعماقهم.
جاءت لتذكرنا بأن المعضلة ليست في وجود سوء فهم بين جارين، وأن الأمر أكبر.
لو قدر للأحداث أن تحدث إبان القطيعة بيننا وبين مدريد، لكان هناك من يتهمنا بأننا استعملنا سلاح البشرية المخصب في إفريقيا وأن المغرب يستعمل المهاجرين لمعاقبة إسبانيا.. ومن الواقعي أن ينتبه رئيس الحكومة بيدرو سانشيز أن المأساة وليدة مافيات وأننا كلنا شركاء في مواجهتها، ويعطي بذلك الأسباب والمسؤولين عنها.. باسم بلاده وباسم أوروبا وباسم الشراكة في موضوع ما زال داميا وسيظل، بدون معالجة أعمق…
الحادثة تقول إن المعضلة أعمق بكثير مما وقع وقد يقع: إن الهجرة هي أكبر المعضلات بيننا وبين الاتحاد الأوروبي..
جاءت لتذكرنا أننا أحسن من يفهم مخطط الأحياء منا والقتلى الذين قضوا في الفاجعة:
جاءت أحداث مليلية لتذكرنا بأن المأساة المتعلقة بالباحثين عن فردوس أوروبا، تشبه الحرب، وهي لا حرب، تشبه الحج وهي دونه وتشبه الانتحار وهي بدون مخططه ونواياه..
في الحرب التي تخوضها قوات حفظ الأمن، مواجهة غير متكافئة بين المندفعين الذين يحضهم اليأس على المجازفة، ولا شيء أمامهم سوى البحر والأسلاك…
تذكرنا بأن الجنة في القرن الواحد والعشرين بالنسبة لأفارقة التشاد والسينغال والسودان، الهاربين من الحرب والانفصال والمجاعات أو الإرهابيين والهاربين من يأسهم، هذه الجنة محاطة بالأسلاك الشائكة وبمخاوف الأغنياء في الشمال والدول الحالمة بالغاز وحده وبالرأسمال…
تذكرنا أن أوروبا تكتشف لنفسها سخاء لا محدودا مع المهاجرين الذين يركبون سياراتها ويتكلمون لغاتها ويربون حيواناتها الأليفة، وتحب الأوكرانيات والأوكرانيين . هي نفسها القارة العجوز التي تتبرم من وجود شبان وشابات في عمر الأبنوس والسفاري !هولاء الذين يعتبرهم المغرب »المشترك الافرو أوروبي في تقاطع التعليم والثقافة والتكوين المهني والتنقل والهجرة «….
جاءت الحادثة لتذكرنا بأن المغرب يدفع ضريبة من دم أبنائه كلما سقط واحد منهم على الحدود، كان يحرسنا ويحرس الجيران، وكلما أريق دم رجل سلطة أو قوات مساعدة أو عنصر أمن.. وبدون الميل إلى المنظور أو المقاربة الأمنية البحتة والحصرية..بل أكثر من ذلك أن الوصفة التي تليق بوقف الفاجعات هي التي ترى الهجرة، كما ورد في رسالة الملك إلى القمة الأوروبية الإفريقية في فبراير الماضي، «لا بصفتها تحديا فحسب، بل باعتبارها مصدرا هائلا للفرص».
ومن هنا، كانت ريادته الإفريقية في الهجرة مدخلا يليق بوقف الفاجعة عبر «تبديد أشكال سوء الفهم التي تحيط بهذا الموضوع». وتلك هي رسالة المرصد الإفريقي للهجرة، الذي أنشئ بمبادرة من ملكنا، والتي قالت عنه رسالته بأنها «تتمثل في توفير البيانات والمعطيات الموضوعية حول الهجرة، وتوضيح الحقائق، والتوفيق بين مصالح كل من إفريقيا وأوروبا في حال تعارضها، وإحلال منطق العلاقة العضوية بين تنقل الأشخاص والتنمية، محل المنظور الأمني الصرف».
جاءت الحادثة لتذكرنا بأن الحج صيغة أخرى في وصف ما وقع من تدافع، في الهواء الطلق، للمناكب والأجساد والصدور والركب.. وأن ما هو مقدس في هذه الرحلة الحاسمة نحو الموت: هو الحق في الحلم وفي التنقل بين أركان الجهات الأربع للكرة الأرضية..
إن الذي يفكر في الأمور فوق سراط غير مستقيم ويندفع في الفجوة البسيطة بين ممرين، يكاد يكون قد وضع حبلا يتدلى منه.. والانتحار كلمة قاسية ولا يمكن أن نفكر فيه، بدون عواقب أخلاقية علينا نحن ، قبل الذهاب بعيدا في الحديث عن المجازفة.
لكنه يشبه ركوب الموج وركوب المراكب البسيطة وما يصلنا من صور المشهد العبثي في تسلق الأسلاك والمرور بينها والوقوع على الضفة الأخرى .. من الحياة!
لقد اجتهدت العبارات كثيرا في وصف الجرح وإعطائه بلاغاته العميقة التي تتحرك في الوجدان، لكن اللغة ستتطلب الاجتهاد في الوصف مرات عديدة ما دامت الأحلام لم تجد طريقها إلى الواقع ولم يتبدد سوء الفهم الحضاري اليوم بين إفريقيا وأوروبا حول المهاجرين…

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.com - بتاريخ : 27/06/2022