ماكرون والمغرب والذاكرة الأخرى: ذاكرة التحرير بين محمد الخامس وشارل ديغول

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

كتب سيباستيان لوكرنو، وزير أقاليم ما وراء البحار السابق ووزير الجيوش، موقع استراتيجي سيادي في الحكومة الجديدة، وباتريسيا ميراليس، كاتبة الدولة المكلفة بقدماء المحاربين والذاكرة، مقالا مشتركا نشرته يومية “لوفيغارو” الفرنسية في عددها ليوم أمس يخص مشروع قانون الميزانية العسكرية، ولا سيما منه المادة المتعلقة بقرار تمديد حياة مؤسسة وسام التحرير، بقرار من رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون.
حازت المادة 11 من قانون البرمجة العسكرية أو مشروع قانون الميزانية العسكرية لفرنسا، على نقاش واسع، بل باحتفاء في العديد من منابر الإعلام الفرنسي، بعد تقديمها إلى المجلس الوزاري، والمادة ذات صلة بمؤسسة رفاق التحرير ـ وسام التحرير، باعتبارها مؤسسة أنشأها الجنرال دوغول في 1940، الذي تدين له فرنسا بتحريرها من المستعمر النازي .. في تقديم المشروع، ومن خلاله تعبير عن الإرادة في العمل على استمرارها، تعمل المؤسسة، كرديف مادي لاستمرار أخلاقها وقيمها اللامادية…. الجانب يشكلون
60 شخصا غير فرنسيين، من أصل 1038 في لائحة مغلقة.. وماكرون يريد إحياء هذه الموسسة، التي تم إعلان إنطفائها في 12 أكتوبر 2021، مع وفاة آخر معمر وبطل فيها، هوبير جيرمان..
المُصْطفون لدخول محفل الرفاق التحرريين كانوا من الذين واجهوا نظام فيشي المساند للنازيين ولهتلر، وقد تميز محمد الخامس في هذه الجبهة عبر معارضة أنظمته العنصرية ضد المغاربة اليهود.. وعمره وقتها 30 سنة عند اندلاع الحرب…والواقع لم يكن لهذا المقال المكتوب بأربع أيادٍ أن يثير الكثير من الاهتمام لولا أن المغرب معني، معنويا، في الماضي كما في الحاضر، بهذه القضية ولا سيما بعد الهالة الكبيرة التي أحيطت بها، مما جعل وزيرا وكاتبة دولة يوقعان مقالا تقْريضيا في المسألة.
لقد اعتبرت مقالة المسؤوليْن الوزارييْن أن لحظة مناقشة هاته الميزانية، التي تعرض على النواب في القادم من الأيام “لحظة حقيقة”، بالنظر إلى ما تمثله من استعداد فرنسي لل”مخاطر التي تنتظر البلاد”. وبما أن الأمر يتعلق بلحظة حقيقة، نعتقد بأن الجزء الخاص بالذاكرة وبالتاريخ وبالمغرب في خضمهما هو أيضا لحظة حقيقة أمام فرنسا ماكرون أن تواجهها.
يقول نص المقال بأن المشروع المعروض ضمن الميزانية يسعى ” إلى إحياء إرث رفاق التحرير الذين رفضوا القدر المحتوم أمام المستعمر النازي والتواطؤ المشين لنظام فيشي”، وفي هذين السجلين بالذات برز مغربي كبير وقائد من قيادات الحرية عالميا، وانتصر لقيم تريد فرنسا أن تستعيد حيويتها وتغذي بها المجتمع الحديث، وهذا المغربي الكبير والعظيم هو محمد الخامس!
وإنه لمن التنكر للقيم التي انتصر لها رفقاء التحرير، في منظومة وسام التحرير أن يتم الحديث عن الفرنسيين وحدهم أو الاكتفاء بالإشارة إلى”جنود أفارقة” ضمن الطيف الواسع الذي شكله مؤسسو رفاقية التحرير.
لقد حصل محمد الخامس على وسام رفيق التحرير باعتباره ملك المغرب، وكانت بلاده تحت الاستعمار،، وقد دخل التاريخ الفرنسي الخاص من سجل فريد في دول شمال إفريقيا، كما في كل خريطة الاستعمار الفرنسي باعتباره الملك الوحيد في هذه المنظومة المبنية على ذاكرة قيم الشجاعة والنزاهة واحترام الدول والحرية.. والاسم الوحيد المكتوب في لائحة رفاق التحرير، بصفته السلطانية هو محمد الخامس، إضافة إلى ملك المملكة المتحدة جورج السادس طبعا..
أمام ماكرون، الذي كان وراء هذه الخطوة حسب وزيريه، أن يعود إلى ذاكرة هذا المنجز المغربي، من داخل المسيرة الأخلاقية تجاه المغرب… لن نذهب إلى حد القول أن فرنسا إيمانويل ماكرون خسرت المعركة الأخلاقية، كما ورثت مقوماتها من حرب تحريرها هي، لكن المفارقة تقتضي أن نقف عند كيفية مواجهة ماكرون لما سماه هو ذاته “ذاكرة الريع”، ولكنه في الوقت نفسه يغازلها باستمرار، والحال أن ذاكرة الحرية، تلك التي تفرض عليه ديمومتها أن يخضع دوما لشرط الامتنان والاعتراف، لا يمكن القول بأنها تحظى لديه بالتقدير نفسه، التقدير السياسي والأخلاقي معا…
هناك سرعة في رفع المبادئ النزيهة والرفيعة إلى …مرتبة الاحتمال عندما يتعلق الأمر بالمغرب وميل إلى النسيان، مقابل الانصياع إلى متطلبات التعايش مع ذاكرة الريع، كما يرعاها فصيل سياسي عسكري عند نظام الجار، الذي ليس مخولا أخلاقيا للحديث باسمها، هو المتنكر لكل قيمها الجماعية ومنها القيم المغاربية والوحدة الروحية للمقاتلين في حرب التحرير بشمال إفريقيا.
لا يهمنا من الأمر سوى أن ماكرون تنكر لمنظومة كاملة يسعى اليوم إلى توظيفها كموقع معنوي لدعم الجيوش الفرنسية، الذي أغدق عليها أموالا طائلة غيرمسبوقة من أيام ديغول، مؤسس منظومة رفاق التحرير.
إن اللائحة صك أخلاقي، وصك الاتهام في الوقت نفسه، لكل من يسعى إلى وراثة الكولونيالية المقيتة التي واجهتها منظومة رفاق التحرير، وفي قلبها المغرب وفرنسا ديغول، وليس عفو َ تاريخٍ إذا تغيب عن اللائحة الجنرال اوغستان غيوم الذي كان وراء نفي الملك وأسرته، كما غاب عنها ألفونس جوان الذي تمت ترقيته إلى رتبة مارشال فرنسا وهو الرجل الذي اشتهر بالعنف ومؤامرة العمل مع الباشا كلاوي، الذي سمح له بحَرْكة بالخيول نحو الرباط في تحد سافر للسلطان ـ الملك..
ومحمد الخامس الذي نال وسام التحرير وصفة رفيق التحرير النادرة، ضمن كوكبة المقاتلين من أجل الحرية، وحرية فرنسا بالذات، هو نفسه محمد الخامس الذي قاد بلاده إلى الانعتاق بروح قتالية واستقلالية رفيعة جعلت منه قائد معركة تحرير بلاده.
ملك انتصر لحرية فرنسا ضد النازية، هو الذي انتصر لحرية بلاده ضد فرنسا نفسها..
وهذه المعادلة مطلوب من فرنسا ومن يتبني نزعاتها القديمة أن تتأملاها بالكثير من الامتنان … والتواضع كذلك!

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 06/04/2023