ماكس‭ ‬فيبر‭ ‬يأمر‭ ‬بالمعروف‭ ‬وينهى ‭ ‬عن‭ ‬المنكر 2/2

عبد الحميد جماهري

 

وفي‭ ‬تفسير‭ ‬القرآن،‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬مالك‭ ‬شبل‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ «‬بيان‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إسلام‭ ‬الأنوار‭(‬2004‭)» ‬،‭ ‬سيكون‭ ‬المطلوب‭ «‬ملاءمة‭ ‬الإسلام‭ ‬مع‭ ‬الحداثة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعارض‭ ‬أطروحة‭ ‬الأصوليين‭ ‬التي‭ ‬تهدف،‭ ‬لا‭ ‬أقل‭ ‬ولا‭ ‬أكثر،‭ ‬إلى‭ ‬تكييف‭ ‬الحداثة‭ ‬مع‭ ‬الإسلام،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إسلام‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬أو‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭»‬،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬المجهود‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬في‭ ‬محاولات‭ ‬كثيرة‭ ‬جدّية‭ ‬وجريئة،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬النصوص‭ ‬التراثية‭ ‬ونصها‭ ‬السياقي،‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬الذي‭ ‬تتحدّد‭ ‬فيه‭ ‬تاريخية‭ ‬الأمة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬المغربي،‭ ‬أو‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬عموما،‭ ‬ففكرة‭ ‬مصالحة‭ ‬الإسلام‭ ‬مع‭ ‬عصره،‭ ‬أغرت‭ ‬مفكرين‭ ‬عديدين‭ ‬ينتسبون‭ ‬إلى‭ ‬حقل‭ ‬العقلانية‭ ‬الواسع،‭ ‬منهم‭ ‬محمد‭ ‬الطالبي‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬ومحمد‭ ‬أركون‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬وبشارة‭ ‬خضير‭ ‬في‭ ‬بلجيكا‭ ‬ومحمد‭ ‬سعيد‭ ‬العشماوي‭ ‬ونصر‭ ‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬ومحمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬وغيرهم‮.‬‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬مرة‭ ‬نادرة‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬استنطق‭ ‬فيها‭ ‬الوزير‭ ‬المؤرخ‭ ‬والروائي‭ ‬صاحب‭ «‬جارات‭ ‬أبي‭ ‬موسى‭» ‬الشهيرة،‭ ‬نصا‭ ‬قرآنيا‭ ‬له‭ ‬امتداداته‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬العام‭ ‬للأمة‭ ‬وللمؤمنين‭ ‬عموما،‭ ‬ويخلق‭ ‬تبايناتٍ‭ ‬صدامية‭ ‬أحيانا‭ ‬بين‭ ‬طرائق‭ ‬التفكير،‭ ‬أمام‭ ‬العاهل‭ ‬المغربي‭ ‬في‭ ‬مناسبةٍ‭ ‬ليست‭ ‬عادية،‭ ‬وهي‭ ‬الدروس‭ ‬الحسنية‭ ‬الرمضانية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬سنها‭ ‬الملك‭ ‬الراحل‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني،‭ ‬للإنصات‭ ‬لاجتهادات‭ ‬وتنظيرات‭ ‬دينية‭ ‬واجتماعية،‭ ‬تتوزّع‭ ‬بين‭ ‬التأصيل‭ ‬الفقهي‭ ‬لنوازل‭ ‬العصر‭ ‬ومراجعات‭ ‬التصورات‭ ‬بالاستناد‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭.‬
لا‭ ‬نتجه‭ ‬هنا‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬نحو‭ ‬الحداثة‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬امتدادات‭ ‬النص‭ ‬التراثي‭ ‬في‭ ‬العصر،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬نسعى‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬معاكس،‭ ‬يكون‭ ‬الفهم‭ ‬فيه‭ ‬قد‭ ‬تربّى‭ ‬في‭ ‬حضن‭ ‬التفكير‭ ‬الحداثي،‭ ‬ويتجه‭ ‬نحو‭ ‬سبر‭ ‬أغوار‭ ‬النص‭ ‬التراثي،‭ ‬والبحث‭ ‬في‭ ‬موضوعٍ‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يحتفظ‭ ‬بطراوةٍ‭ ‬كثيرة،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نقل‭ ‬في‭ ‬الدهشة‭ ‬لدينا‭ ‬جميعا،‭ ‬وهو‭ ‬معادلة‭ ‬الدين،‭ ‬باعتباره‭ ‬العامل‭ ‬المهيكل‭ ‬الأول‭ ‬للثقافة،‭ ‬وتأثيره‭ ‬الهائل‭ ‬في‭ ‬آليات‭ ‬النمو‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬كان‭ ‬ماكس‭ ‬فيبر‭ ‬موضوع‭ ‬جدال‭ ‬كبير‭ ‬بين‭ ‬الماركسيين‭ ‬العرب‭ ‬والماركسيين‭ ‬المجدّدين،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬مجهوداته‭ ‬في‭ ‬تنويع‭ ‬العرض‭ ‬السوسيولوجي،‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬الثورات‭ ‬العلمية‭ ‬والمعرفية‭ ‬التي‭ ‬عاصرها،‭ ‬ظلت‭ ‬حكرا‭ ‬على‭ ‬زاويةٍ‭ ‬شبه‭ ‬ضيقة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬معها،‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬عن‭ ‬تأصيل‭ ‬التفكير‭ ‬السوسيولوجي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬في‭ ‬الترابط‭ ‬بين‭ ‬القوتين،‭ ‬الدينية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬وكتابه‭ ‬المثير‭ ‬عن‭ ‬البروتستانتية‭ ‬والرأسمالية‭ ‬جدير‭ ‬بالعودة‭ ‬إليه‭.‬
وما‭ ‬زلت‭ ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬اسمه‭ ‬وحده‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬الطلابية‭ ‬في‭ ‬السبعينيات‭ ‬والثمانينيات‭ ‬كان‭ ‬يثير‭ ‬سخط‭ ‬السواد‭ ‬الأعظم‭ ‬من‭ ‬طلبة‭ ‬الانتماء‭ ‬الماركسي‭ ‬والماركسي‭ ‬اللينيني،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬رفض‭ ‬منظّرين‭ ‬ومناضلين‭ ‬وعاملين‭ ‬في‭ ‬الحقول‭ ‬المعرفية‭ ‬والتاريخية‭ ‬كثيرين‭ ‬المطلق‭ ‬لمجهوداته،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬جوهر‭ ‬تفكيره‭ ‬كيفية‭ ‬تأثير‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬الحداثة‭ ‬على‭ ‬المجتمعات،‭ ‬بما‭ ‬قد‭ ‬يتداعى‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬قضايا‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالرأسمال‭ ‬والبيروقراطية‭ ‬وعقلنة‭ ‬التاريخ،‭ ‬والمفهوم‭ ‬المتجدّد‭ ‬للدولة‭ ‬وأدوارها،‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭.‬
لقد‭ ‬وضع‭ ‬ماكس‭ ‬فيبر‭ ‬أسس‭ ‬تفكير‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬داخلية،‭ ‬تجعل‭ ‬منه‭ «‬فن‭ ‬وجود‭ ‬أخلاقي‭»‬،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬نظاما‭ ‬اقتصاديا،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬دعوته‭ ‬إلى‭ ‬الشروع‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬أخلاق‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬قبل‭ ‬البحث‭ ‬فيه‭ ‬ناظما‭ ‬وموجها‭ ‬للعوامل‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬دينامية‭ ‬عقلنة‭ ‬السلوكات‭ ‬العملية،‭ ‬باعتبارها‭ ‬ميزة‭ ‬أساسية‭ ‬للحداثة‭ ‬وفيها،‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬مرجعا‭ ‬في‭ ‬مجاله،‭ ‬تعود‭ ‬إليه‭ ‬اليوم‭ ‬البشرية‭ ‬بتحفيزات‭ ‬جديدة،‭ ‬ويقرّ‭ ‬فيبر،‭ ‬بلا‭ ‬مواربة،‭ ‬بأن‭ ‬البروتستانتية،‭ ‬باعتبارها‭ ‬حركة‭ ‬إصلاحية‭ ‬داخل‭ ‬المتن‭ ‬الكاثوليكي‭ ‬الجامد،‭ ‬هي‭ ‬المؤهلة‭ ‬لكي‭ ‬تحمل‭ ‬دينامية‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬الإحالة‭ ‬عليه‭ ‬الآن‭ ‬دعوة،‭ ‬بوعي‭ ‬غير‭ ‬مباشر،‭ ‬إلى‭ ‬حركة‭ ‬إصلاحية‭ ‬دينية،‭ ‬تتمثل‭ ‬الإصلاحية‭ ‬البروتستانتية‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬وفهم‭ ‬الأخلاق‭ ‬المرتبطة‭ ‬بها،‭ ‬داخل‭ ‬المتن‭ ‬الإسلامي‭ ‬وتاريخه‭.‬
عرفت‭ ‬الدروس‭ ‬الرمضانية‭ ‬مقارباتٍ‭ ‬كثيرة‭ ‬تقرّب‭ ‬بين‭ ‬الأهداف‭ ‬المعلنة‭ ‬والصريحة‭ ‬للقيم‭ ‬الدينية‭ ‬والمبادئ‭ ‬السامية‭ ‬للدين‭ ‬الحنيف،‭ ‬كما‭ ‬شهدت‭ ‬مساهماتٍ‭ ‬عديدة‭ ‬لباحثين‭ ‬جدد،‭ ‬وباحثاتٍ‭ ‬شكلن‭ ‬علاماتٍ‭ ‬فارقةً‭ ‬في‭ ‬الدرس‭ ‬الديني،‭ ‬في‭ ‬محفل‭ ‬له‭ ‬ميزاته‭ ‬الباصمة‭ ‬في‭ ‬الحقل‭ ‬الديني‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬الدائرة‭ ‬المؤمنة،‭ ‬ولكنها‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬مقاربةً‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬الوضوح‭ ‬والتفاعلية‭ ‬مع‭ ‬الفلسفة‭ ‬المعاصرة‭ ‬في‭ ‬المبحث‭ ‬السوسيولوجي،‭ ‬ناظمة‭ ‬للتفكير‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬معيشية،‭ ‬يلتقي‭ ‬فيها‭ ‬الرأسمال‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬التنمية‭ ‬ونموذجها‭ ‬الفاعل،‭ ‬مع‭ ‬التراث‭ ‬القيمي‭ ‬والأخلاقي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وفي‭ ‬التمرين‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬الوزير‭ ‬المؤرخ‭ ‬الروائي‭ ‬ملمح‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬الفيبرية‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬عقلنة‭ ‬التاريخ،‭ ‬ومنه‭ ‬التاريخ‭ ‬الديني‭ ‬والتفكير‭ ‬العقائدي،‭ ‬كما‭ «‬يمكن‭ ‬للتفسير‭ ‬الجديد‭ ‬للنصوص‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬نظرية‭ ‬كاملة‭ ‬ومستقلة‭ ‬بذاتها،‭ ‬بإنتاجها‭ ‬الفكري‭ ‬وتاريخها‭ ‬في‭ ‬اليومي‭ ‬وجيواستراتيجيتها‭ ‬الخاصة‭ ‬بها‭»‬،‭ ‬على‭ ‬حد‭ «‬بيان‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إسلام‭ ‬الأنوار‭» ‬سالف‭ ‬الذكر‭.‬

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 16/05/2019