ما الذي يتهدد الدولة الاجتماعية؟

عبد الحميد جماهري

هناك توافق وطني كبير، بنته فلسفة إرادوية ملكية voluntarism royal، يتعلق بتثبيت الدولة الاجتماعية.
وإذا نحن اعتبرنا أن المعنى واضح في الأذهان ومقوماته كذلك، فإن ما يظهر من خلال مجريات الأحداث أن ثلاث ركائز، على الأقل، من ركائز الدولة الاجتماعية تعاني من تعثر، يصل أحيانا إلى درجة المؤشر الأحمر…
الركيزة الأولى تتعلق بالمناخ الاجتماعي، ونعني بها وجود توافق بين الشركاء الاجتماعيين للحكومة، وأطراف أخرى في الدولة والقطاع الخاص على ضمان سلاسة في سير مرافق الدولة ومؤسسات القطاع الخاص، على حد سواء، بشكل يضمن حقوق العامل والموظف والدولة والمنتج!
ولعل المناخ الاجتماعي في المغرب، علاوة على التضخم والغلاء وصعوبة العيش الكريم، يتجلى في وجود درجات عالية من التوتر لا تخفى عن العين.
وفي قلب ذلك مفاوضات اجتماعية مسترسلة ومنتجة، أبانت عنها التوترات الحالية في المدرسة وكما قد تنتج قريبا في قطاع الصحة والجماعات وفي غيرها من القطاعات العمومية ذات الصلة بالأجر وظروف العيش الكريم …ولعلنا هنا نتذكر جميعا خطاب الملك في مناسبة عيد العرش في يوليوز 2018، عندما شدد جلالته على أن «الحوار الاجتماعي واجب ولابد منه، وينبغي اعتماده بشكل غير منقطع» داعيا الحكومة إلى «أن تجتمع بالنقابات، وتتواصل معها بانتظام، بغض النظر عن ما يمكن أن يفرزه هذا الحوار من نتائج»…
الركيزة الثانية تتعلق بالعمل المضمون والشامل، كما تنص على ذلك أدبيات التشغيل في العالم، وهنا أيضا بين أيدينا دعوة صريحة وتعريفا لا غبار عليه صادر عن ملك البلاد وهو يتحدث بالفعل عن تدشين مرحلة التغطية الاجتماعية وبناء أسس الدولة الاجتماعية كما يراها، كما نملك الأرقام الصادمة بخصوص البطالة.
من جهة، يقول ملك البلاد، «كنت ولا أزال مقتنعا بأن أسمى أشكال الحماية الاجتماعية هو الذي يأتي عن طريق خلق فرص الشغل المنتج، والضامن للكرامة»، ومن جهة مقابلة تبين إحصائيات المندوبية السامية عن ارتفاع معدل البطالة في المغرب، مبينة أن هذا المعدل انتقل في الربع الثالث من سنة 2023 إلى 13.5 بالمئة، مقابل 11.4 بالمئة خلال نفس الفترة من العام 2022، وعليه فإن عدد العاطلين بالمغرب بلغ مليونا و625 ألف شخص.. والحال أن الحكومة قد ردت على لسان وزارة الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات، بدون أن تنفي جدية الأرقام المعلن عنها…
بطيبة الحال فإن ارتفاع البطالة يعطل من نجاعة التغطية الاجتماعية والدعم وما إلى ذلك، وغير خاف بأن لذلك علاقة بالتقاعد والضريبة كمصدر لتمويل مجهودات الدولة الاجتماعية في تحقيق الحد الأدنى من مواجهة الهشاشة.
أما الركيزة الثالثة فهي المدرسة الوطنية، سواء في تركيز قيم الدولة المتضامنة أو في فسح المجال للارتقاء الاجتماعي لمن هم من أصول اجتماعية شعبية أو محدودة الدخل أو فقيرة أو من حيث السماح لانبثاق طبقة وسطى قادرة على العيش، .. وفي الجانب السلبي، تعطيل الاندماج في غياب تعليم قادر على تلبية حاجيات الشغل وتجاوز المدرسة العمومية المغربية وظيفة… محو الأمية!
ولعل الخبر المفرح حول تحقيق انفراج داخل الوسط لا يسقط النقاش العميق الواجب خوضه حول مهام المدرسة داخل منظومة الدولة الاجتماعية كما في صلب الارتقاء بالمجتمع ومنظومة قيمه (خطاب الجدية والمعقول وما إلى ذلك).
لن نعرج على «حامل المشروع» أو المسؤول عن تنفيذ أجندته، وهم أصحاب القرار التنفيذي ومدى قدرتهم على تصريف هذا التوافق الوطني الكبير، والذي يعد سوء تصريفه أحد أبرز أزمات السياسة في المغرب، لكن لا بد من القول إن الحامل الليبرالي للمشروع، الذي كان إلى حدود عشية كوفيد والحرب الروسية يبشر بنهاية الدولة الآمرة بالصرف الاجتماعي هو نفسه التي يتقدم المشهد في الدفاع عن الجانب الاجتماعي من اختيارات الدولة، وهو ما يطرح قدرة العقل «الليبرالي» على تصريف توافق اجتماعي كبير، كما يطرح صدقية تَمثُّل المشروع برمته وبكل مكوناته وهي ولا شك قضية شائكة تتعلق باستيطان قيم النيوليبرالية في لحظة بناء اجتماعية. وقد شاهدنا قبل ذلك كيف أن الحكومة السباقة مالت إلى «استحلال» النيوليبرالية hallalisation بالرغم من منظومتها المعلنة في الدفاع عن «المستضعفين» في تناقض مع هويتها في العدالة الاجتماعية التي تم «تدْيينها»!
ولعل من مخاطر الدولة الاجتماعية هو انكفاء الخطاب العام على تكرار محاسنه المثلى بدون النظر العميق في ما قد يعطل الهدف الأسمى. ومن شروط التجاوز الإيجابي ضرورة تنشيط الفضاء العمومي (حوارا وسجالا ومعطيات) بكل ما يتم حول هذا المشروع الكبير في دولة محمد السادس!

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 12/12/2023