ما يمكن أن نقرأه في الاعتراف الأمريكي.. 3/2

عبد الحميد جماهري
الصحراء – فلسطين – الخليج
لكي نحب فلسطين، وندافع عن فلسطين كان لا بد من شرط : أن يكون لنا وطن!
هذه البدهية غالبا ما تغيب عن الأذهان، وبعضها نيِّرُ، وغالبا ما تعمي بعض الأبصار وبعضها تطفى البصيرة معها.
والمغرب بلا صحراء،كما يراد له، مهدد بالزوال، وبضمور دوره في المنطقة وفي العالم..نقول هذا لأن البعض يريد أن يوهم شعبنا بان كفة الصحراء قد يمكن اغفالها من حساب الربح والخسارة في ما يقع اليوم.
وكثير من التجمعات الأيديولوجية والمتخندقة، ما بين الأرض والسماء، تريد منا أن نؤجل وطننا إلى وقت لاحق، وربما نلغيه لكي نستحقه.
الذريعة اليوم هي فلسطين، ولكن الكثير منها لم يكن في حاجة إليها لكي يجعل من الوطن المغربي، سببا كافيا لشتمه والتنكيل به واستصغاره ،حدث ذلك قبل فلسطين وسيحدث بعدها!
أما بالنسبة للمغاربة الذي يلتزمون، فقد جعلوا لقلوبهم وطنين، وشدوا عصافير الجليل إلى سماء الداخلة، وحلقوا بلا عقد!
وبالرغم من أن أرضهم في الجنوب كانت موضع حروب حقيقية، ثم حروب ديبلوماسية وحروب نفوذ..فإن المغاربة لم يتعللوا بذلك لكي يقولوا إن التوازن الاستراتيجي مع أشقائنا/ أعدائنا يعفينا من حروب فلسطين ومساندتها!
كنا ربما الشعب الوحيد الذي، لا حدود له مع المحتل الإسرائيلي، الذي كان عليه أن يقاتل من أجل تحرير أرضين:أرضه وأرض فلسطين.
أبدا.. بل إن وحدة الشهادة جعلت القضية، تولد، رسميا وعربيا، هنا في الرباط مع ميلاد قضيتنا على الصعيد الأممي..
فهنا في الرباط ، كانت القمة العربية الثامنة سنة 1974 (في الفترة من 26 وحتى 29 نوفمبر 1974 ) بمشاركة كافة الدول العربية قد اعتمدت «منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وتبنت القمة قراراً يعترف لأول مرة بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني بموافقة جميع الدول العربية باستثناء الملك حسين الذي امتنع عن تصديق القرار لهذا لم يعتمد القرار وبقي سرا»….
هذا التلازم بين ميلاد القضيتين، على الصعيد الديبلوماسي الدولي والعربي والإقليمي، سيظل هو جوهر عقيدة المغرب الشعبية والرسمية.
والمغاربة عندما ربطوا الصحراء بفلسطين، كانوا يضعونهما على قدم المساواة، ووزعوا عاطفتهم والتزامهم بين القضيتين بالتساوي،
لم يدر في خلدهم، أبدا، أن قضية ما، تكون أقدس من أخرى، لهذا يرفضون اليوم هذا التعالي «النضالي،» الذي لا يخدم القضيتين.
ولا تكون أن قضية عليا وأخرى سفلى..
ولهذا يغضبون عندما يجدون أن بلاغات البعض تجد ما يكفي من الجمل للحديث مطولا عن المغرب وإدانة قراره باستئناف العلاقات مع إسرائيل، وأقل من جملة أو العدم حتى ، عن حق بلادهم في انتصار ما!
وبعد خمسة وأربعين سنة، على قرار اعتماد المنظمة ممثلا شرعيا ووحيدا، وانطلاق المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء، ظل هذا الانتماء هو نفسه..
وقد قالها ملك المغاربة لممثل المنظمة والسلطة في الضفة عباس أبومازن:« المغرب يضع دائما القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية، وأن عمل المغرب من أجل ترسيخ مغربيتها لن يكون أبدا، لا اليوم ولا في المستقبل، على حساب نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة».
لم تكن صدفة أن اتصال ملك المغرب مع القائد الفلسطيني، كان مباشرة، وبالوضوح ذاته والجرأة ذاتها، بعد الاتصال مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، احتراما وتقديرا ووجوبا وتأكيدا وتشديدا.
وكما تم إخبار الرأي العام الوطني تم إخبار الرأي العام الفلسطيني، بنفس الأسلوب وبنفس الوسيلة، في تلازم آخر بين القضيتين..
ولهذا لا يقبل المغاربة الآن، على الإطلاق، بلاغات مواقف وتصريحات ترى أن شهداء شعب من الشعبين،المغربي والفلسطيني، أكثر مباركة من شهداء الشعب الآخر…
أبدا… ..
ولهذا يشعرون بالغضب، عندما يتم تبخيس ترابهم ووحدتهم وحريتهم ، باسم أرض ووحدة وحرية شعب فلسطين، التي تشكل هوية ثابتة في وجدانهم.
نحن الشعب الوحيد الذي يمتحن اليوم في حب واحد باسمين،
ونحن الشعب الوحيد الذي يمتحن اليوم في عدل واحد بقضيتين،
ونحن الشعب الوحيد الذي يمتحن اليوم في حق واحد موزع بين رايتين، رغم أننا نعيش الأمرين بالقداسة نفسها والثقة نفسها والشعور العميق بالعدل نفسه.
لنتحدث عن قضية استئناف العلاقات، بوضوح شامل، وبميزان الحق والعدل نفسه في القضيتين؟
لنسميه تطبيعا، حتى ونحن نختلف بالفعل على التسمية، وهي ليست بمستوى علاقات طبيعية،لأن هذه الأخيرة لا تولد ببلاغين وينهيان سيرة طويلة من التمايزات بين علاقات ما وتطبيع العلاقات.
نحن في طور العلاقة وليس في طور تطبيع العلاقة..والفرق كبير، مليء بالزمن والسياسة والتوازنات والتصفيات العميقة.
ومع ذلك،
ليكن هذا تطبيعا
وليكن سُمًّا.. ونحن نتجرعه!
الحقيقة أنه لم يفرض علينا من طرف رئاسة أمريكا،
بل تجرعناه من يد إخوتنا……
هي ذي الحقيقة،
فلاشعب أراد له إخوتنا الخصوم أن يخرج منتصرا، لا غربا ولا شرقا، ولا في المغرب الكبير..بفتح الحدود وتسوية الملفات العالقة، وبتطبيع العلاقات معنا!
( هل علينا أن نشكرهم على فتح سفارتهم هنا بيننا، نحن المحتلون تواضعوا وقبلوا أن يطبعوا معنا، أم نبتسم من هذا العبث؟)!
***
سنعترف أننا كنا بعيدين عن تصور هذه المعادلة:تسريع الخطوات في الصحراء والبقاء على ثبات الموقف في القدس..
نحن الذين ناضلنا، وزايدنا على دولتنا في ما يخص أرضنا، لم نكن نهيئ أنفسنا لهذه المعادلة القاسية: معادلة لا ينقذنا منها سوى ما قد يربحه الوطن!
ككل اللحظات الكبرى، التي تكون مأساة الكثيرين من المناضلين -أتكلم عن الصادقين من رفاقنا - فيها أنهم لا يريدون أن يقروا بأن التاريخ تراجيدي، في منعطفاته!
ويكون علينا أن نعرف كيف نجد التوازن بين حقنا في السعادة بخطوة لصالح بلدنا وحقنا في أن نشارك شعبنا فرحة مكسب سياسي كبير كبير للغاية، وأسانا في أن يكون ذلك مشروطا بمصافحة عدو شعبنا الآخر، شعبنا الفلسطيني..
قد نرى في الوضع الطبيعي أننا بلاحاجة إلى هذا التقابل بين حقين..
قد نرى أن المعادلة ممكن أن تكون غيرها الآن، لكن هل هذا ما يقوله التاريخ الآن، في هذه اللحظة المستعصية على الترتيب؟
أبدا، ولنا أسوة في شعبنا الفلسطيني نفسه:
نشكره أنه لم يطلب منا أن نعلق الوطن، وطننا، ونؤجله إلى حين استكمال وطنه، بل جرب تاريخيا الاستحالة، وطَبْعَها، بل دخل من باب الإمكان السياسي، الضيق للغاية ، حشر نفسه في المجرى الذي يقود إلى بلاده (فوق حجر سنبني دولتنا، كما قال درويش ).
إلى فلسطين…
وكانت أوسلو.. وفتح المغرب مكتبا للاتصال.. واستمر التاريخ، إلى حين افتتحت الانتفاضة في 2002 بابا جديدا له، فأغلق محمد السادس المكتب.
هل تعطلت وقتها إرادته ما بين 1994 إلى 2002؟
أبدا..وللذين يشككون في التزامات المغرب أن يعودوا إلى تفاصيل الفترة التي كان فيها مكتب الاتصال مفتوحا..
وأشقاؤنا الفلسطينيون في حماس، الذين ألهموا بعض الفصائل في تدبيج بلاغاتها القاسية، وتحدثوا في البيانات عن »الخطيئة الكبيرة«، دخلوا بدورهم من تحت مظلات الممكن الاستراتيجي في اتفاقية أوسلو، دخلوا تحت سقف أقل بكثير من الاعتراف بالسيادة!
وبنوا شعاب الدولة في غزة..ومنذ أيام كانوا في القاهرة، تلك التي تستقبل سفارة إسرائيل وليس مكتبا فقط والتي تقيم اتفاقية سلام منذ كامب ديفيد،.لنسألهم:
ألم تُلْعن القاهرة والسادات لقي حتفه، ولتصير الآن المعبر الإجباري للوحدة بين الأشقاء؟..لماذا تصبح عاصمة السلام المرفوض هي المكان الوحيد لكي يصافح الأخ أخاه في مسارات الصراع المعقد؟
نحن نعرف الجواب
فقط نريد أن نقول بطمأنينة المؤمن:
إن الذين يقيمون سلطة الشعب فوق شبر الأرض، يحلمون ولا شك بأن يستكملوا أرضهم ليسعدوا بسلام مع جيرانهم في التقسيم الأممي وفي الجغرافيا السياسية، وخصومهم في الذاكرة وفي التاريخ، مفروض فيهم أن يتفهموا قلق شعب يسعى إلى استكمال وحدته منذ 45 سنة….
والذين سعوا إلى اغتنام أبسط فتحة في التاريخ والديبلوماسية مهما صغرت، هم الذين يتفهمون أن يتعامل شعب يحملهم في كل أحلامه، مع لحظات خاصة، ولو بعد تردد كبير، وبغير قليل من المشاعر المتضاربة، باستثناء الشعور بالانتماء والعدل ولو كان في كفة حارة!
مع فارق واحد ووحيد بيننا، فارق مدهش:
أعداؤهم هم أعداؤهم.. وأعداؤنا
وأعداؤنا هم إخوتنا.. وإخوتهم!
يفهمون أن فلسطين هي مملكة السماء التي نَهِبُها الأرض، بقبورها ومقاصلها وعواصمها ومدنها، ونتدارك بها ما لم ننجح فيه من توبة أو من دعاء..
بل فلسطين أرض شعب وحضارات وسياسات أيضا.
لا يخضع المغرب في فلسطينيته لامتحان عليه أن يثبت جدارته فيه، بل ربح هذا الامتحان عندما كثيرون يتسترون وراء قضايا فلسطين ليكيدون له في أرضه( لنتذكر المجلس الوطني الفلسطيني الذي عقد بالجزائر وفرض على عرفات مصافحة الراحل محمد عبد العزيز..وكيف حرر مناضلو اليسار الوطني الفلسطينيين من عقدتهم ومن غضب المغرب نفسه، ولهذا العبد الفقير لربه حكاية قد يحكيها !)..
والتزامات ملك البلاد، الذي نثق فيه وهو يقود المعركة لاستكمال وحدة أرضنا، كما نثق فيه عندما يجدد ثوابتنا مع فلسطين لا غبار عليها، وما يدافع عنها هو ماسبقها منذ نصف قرن، وآخرها الرسالة إلى دونالد ترامب نفسه بخصوص القدس..
أليس محمود درويش هو من كتب عن عرفات أنه :كان يمسك الشيطان بيد والملاك باليد الأخرى من أجل صياغة جملة لفائدة بلاده»؟
هذه جملة واحدة فما بالكم بمرسوم من رئيس دولة عظمى..؟
قد نكون في هذا الوضع ، كما عرفات مع بلاده ، كما درويش مع بلاغته!
ونحن ندرك المعدن المغربي..
****
نصل الآن إلى مواقف من هم بيننا!
كل أولئك الذين يصدقون التزاماتهم الراسخة، على الطرف البعيد من المشهد الوطني.. الذين يسعون إلى أن يحشروا بلادهم في زاوية ضيقة، لأنها في اعتقادهم طريقتهم في الدفاع عن التماسك الأخلاقي مع قضية، بدون استحصار قسوة هذا الامتحان..نسأل الصادقين منهم: ألا تشعرون بقليل من السعادة عندما تتقدم بلادكم خطوة في طريق استكمال وطنها، وإنهاء نصف قرن من الصراع؟ …
نسأل ولا ننتظر جوابا..
للآخرين، الذين لا يترددون، بخفة لا تحتمل، في أن يصنعوا شكا لوطنهم وأرضه، بمزاعم أممية تاهت بين الأنقاض، لهؤلاء نقول إن المغرب أعطى الحق لمن ينازعه في أرضه ولو من أبنائه، وللتاريخ أن يجد الموقع الذي اختاره كل واحد لنفسه، غير أن نعت المغرب بالخيانة في قضية فلسطين، يعطينا الحق في أن نتحلل من كل التحفظات التي نفرضها على أنفسنا، ونسأل:
ما هو اسم من يطعن بلاده في أرضها، وهي تواجه صباح مساء، كل خصومها، ألم تتفق البشرية على تسميته بالخائن؟
بالنسبة للذين لم يعرفوا على أي إيقاع يرقصون، أولئك الذين يخلطون الخطاب والخطبة في تركيبة حريفة، لا ندري هل يخونون البلاد أم يحبون المواقع؟
ولا يدرون هل يرقصون مع المشرق أم يحتفلون مع المغرب؟
لهؤلاء، نقول بأن الأفق الوطني تصنعه الصراحة والقوة،
وأن «الدين اختياري والوطن إجباري»!
* ***
المغرب لا يستأذن أحدا، لكنه يصر على أن يفهم أصحاب القضايا العادلة تفكيره وطريقة عمله وأسلوبه في تسيد الاحترام والالتزام، لهذا
نريد لشعبنا وللشعوب النيرة – والمتنطعين أيضا- أن لا ينسوا أن
محمد السادس الذي التزم وتعهد للفلسطينيين، هو من وقف أمام وزير الدفاع الأمريكي يحمل على صدره موقفا «كلنا فلسطينيون»..
وهو من بين كل الرؤساء المعنيين بالقضية من وجه رسالة حادة عند الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل..
وهو الذي استضاف البابا للتشديد على وضعها في وجه كل الديانات، وعاصمة لفلسطين..
وهو الذي أرسل منذ أقل من أسبوعين، وقبل القرار الأمريكي، إلى شيخ نيانغ، رئيس لجنة الأمم المتحدة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف، رسالة اعتبر فيها أن القضية الفلسطينية مفتاح الحل الدائم بالشرق الأوسط..
الرسالة التي وجهها جلالة الملك بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، الموافق 29 نوفمبر أوضحت أن “القضية الفلسطينية هي مفتاح الحل الدائم والشامل بمنطقة الشرق الأوسط، وحل يقوم على تمكين كل شعوب المنطقة من العيش في أمن وسلام ووئام، في إطار الشرعية الدولية، وفق مبدأ حل الدولتين”.
وشدد على “ضرورة تجاوز حالة الانسداد في العملية السلمية، وتكثيف الجهود الدولية لإعادة إحياء المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين (..) الإجراءات أحادية الجانب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ترهن الحل وتذكي الصراع والإحباط وتقوي التطرف”.
وجدد الملك محمد السادس التأكيد على تضامن بلادنا مع الشعب الفلسطيني ودعم حقوقه في إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، مشيرا إلى متابعة جهود المصالحة وحوار الفصائل الفلسطينية، لتجاوز حالة الانقسام التي تعتري الجسم الفلسطيني …» .
والزمن كفيل بالاقناع ، اليوم وغدا..
يتبع
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 15/12/2020