محمد عبد الرحمان برادة: في مديح الاسم الحركي للإرادة!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

وددت لو أن العنوان كان «شغفا …. وبرادة»، ذلك لأن اسم السي محمد عبد الرحمان كان في عرف تقديري له، هو الاسم الحركي… للإرادة. ولعلك عندما تقرأ الكتاب، ثم تغلق دفتيه ستجد الجواب عن سؤال لطالما رددت صداه قاعات الدرس وردهات الجامعات ومنصات النقاش الفلسفي، يتمثل بمفعول الإرادة في صناعة قدره الخاص وقدر ما هو أبعد نصوغه كالتالي: هل يمكن للفرد أن يخوض تجربة إنسانية خاصة فيغير بها التاريخ؟
ونجيب بلا أدنى تردد: هاهي ذي مغامرة فردية مغربية إنسانية، تثبت بالإيجاب أن الفرد الواحد يمكنه أن يغير التاريخ في بلاده ..
فلَوَ لمْ يحلم محمد برادة ذات عام من سبعينيات القرن الماضي حلما مجنونا، لما كان التاريخ العام للوطن والتاريخ الخاص للصحافة… عاقلا بالشكل الذي هو عليه اليوم.
ولو لم يصدق خياله، لما تغير الواقع، ولربما كنا متأخرين، في ساعة الاحتفاء بكتابه هذا، بثورتين على الأقل: ثورة خلق شرايين للتوزيع، لمنتوج هو في ديدنه منذورا لهكذا توزيع.
وثورة خلق القراء والزيادة في أعدادهم، وتوسيع خارطة القراءة، وضمان انتشار الصحافة، بما هي مقوم من مقومات الحداثة والعصرنة، في الزمان والمكان، في الجغرافيا وفي الجغرافيا السكانية أيضا، بما أضافه إلى الورق من عُمُر في فضاءات كانت خارج تجربة الإعلام … لولم يصدق حلمه، ويُجْر ذلك المونولوج الجريء، وينصت بإمعان إلى ما في حواره مع ذاته من وعود، لما كنا اليوم في الوضع الذي نحن فيه، ولما وطَّن في البلاد تجربة ممتعة وشاقة في الوقت ذاته في النشر والتوزيع وخدمة الثقافة.
كان التاريخ مرتعشا، عندما استبق المناخ العام، المستعصي وقتها على الكتابة والصحافة والثقافة، فاستجاب لفكرة أغرته وراودته بإنشاء دار لتوزيع الصحف، بجناحين عربي إفريقي، توصِل المكتوب المهني إلى قرائه المفترضين…
هل كان القرار سياسيا؟ كما نقرأ في شهادات القادة الذي علمونا التحليل الملموس للواقع الملموس، السي محمد اليازغي أطال لله في عمره، والفقيد القادري، رحمه لله، وغيرهم ممن قرأوا السيرة من زاوية معالجة الزمن المغربي الصعب وقتها…
من المحقق …
هل القرار كان مهنيا ؟
ربما مرتين متتاليتين يليهما الميل إلى الإيجاب؟
لكنه لم يكن قرارا سياسيا فقط ولا مهنيا فقط .. بل كان قرارا وطنيا..
ولي في ذلك مسوغات عديدة..
فما من شك، لأنه قرارٌ طبيعتُه سياسية وجوهره مهني، ولكنه يصطف في قلب إرادة وطنية من أجل سيادة مهنية لا تتحكم فيها أذرع الصحافة الموروثة عن مرحلة الاستعمار، تلك التي هاجمت أبناء البلد، وسارعت بعد الاستقلال إلى تحويلهم من إرهابيين، كما نعتتهم، إلى ..قراء مفصلين على المقاس.
وعندما نبتت الفكرة في عقل الرجل، كانت البلاد تخرج بتؤدة وسلاسة من مرحلة تتأرجح بين الفاشية والانقلاب من جهة، وبين الانفتاح والوحدة والديموقراطية من جهة، ولعلها ساهمت في إنضاج التقاء القوة الوطنية والديموقراطية لتجديد التعاقد الوطني من أجل الوحدة والديموقراطية معا، بعيدا عن أشباح السبعينيات، في تلك الفترة، كانت البلاد محكومة بثنائية إعلامية قطباها مشهد سمعي بصري محكوم بإرادة الدولة، ومشهد ورقي تحتكر مشروعيته صحافة المعارضة…
كانت تجربة التقطت المناخ الوطني، برهافة صاحبها وطويته الوطنية، والتقطت إرهاصات مغرب يتبرعم، مرحلة بشهودها وشهدائها، لنا أن نقول إن صوته وحده يكفي في الحديث عنها، والتأريخ لها، بما يملأ بياض الصفحات التي ما زالت عذراء في ذاكرتنا الجماعية، ذاكرة مهنتنا ومؤسساتنا وتطورنا…
أو قل بضمير فردي إن كل من حاول أن يلخص حياة محمد عبد الرحمان برادة في بورتريه، بحدود مرسومة في الزمن والمكان، خسر المعركة..
لهذا أدخل هذه الشهادة بكثير من الإحساس بأنني سأنهزم حقا، في رسم روحه الواسعة على ورقة أو مديح، ولهذا أيضا، لا أعرف إن كان يحق لي أن أكتب عنه، وأنا قد عرفته أقل من عشرين قمرا … مدركا أن حقول الحياة، ما هي إلا مشي السحاب، إذا قارنتُ الزمن الذي عرفتُه فيه بحياته العريضة العريضة مثل ابتسامة نقية في وجه صبي، في لوحة انطباعية جميلة.
ولهذا أسألكم : من أنا كي أكتب عن محمد عبد الرحمان برادة، الذي صنع لي جزءا من لغتي عندما سهر، هو كوماندوس مضيء معه بحرص مكتشف الحروف الفينيقية الأولى، على إدارة الجرائد في المسافة بين المطبعة وبين العقل؟
ومن أنا لأسمح لنفسي بان أقول محمد عبد الرحمان برادة استضافني، لأكثر من عقدين، في عالمه الساحر، بحرص كاهن بوذي، هادئا، منتبها، معلما وصديقا، لينجح اختباري في المرور عبر كل مراحل الصداقة الواجب اتباعها مع النبلاء؟
أنا مجرد صحافي، مناضل وشاعر غرير، يحاول أن يدعي بأنه قادر على أن يمدحه أمامكم بخجل المعتذرين عندما يسرفون حقا في شراب الروح، ثم بدون سابق إنذار، يغادرون الحفلة.
وحده محمد برادة يستطيع أن يرتب قلبه، حفلة لكل الناس،
ففي قلبه يلتقي الأديب والإعلامي، والناشر والمثقف والطابع، يلتقي المواطن والفنان والضيف الأجنبي العارف بالبلاد أو العارف بأعطابها، والمحاور الجيد لصناع الرأي العام، وعندما يصمت يكون الصمت مشهدا لغويا حافلا بالدلالات…
وحده يستطيع أن يعيش بلا أعداء، لأنه، بكل بساطة، لا يستطيع، بل لا يحتمل أن يكون له أعداء، والذين حاولوا ذلك، كثيرا ما تعبوا من قدرته على حبهم.
محمد عبد الرحمان برادة، وهو ينتقل بك من عمق الثقافة العربية إلى عمق الثقافة الفرنسية، تفاجئ نفسك تتابع قبرة تطير بخفة، من صوت أم كلثوم إلى صوت شارل أزنافور…
ومن استعارة في قصيدة رومانسية لأحمد شوقي، إلى بلاغة حادة في نثرية جاك بريفير، تجد فيه مجاورة ذكية بين ماسينيون وطه حسين، ولقد كلفتني مجاراته هو، ساعات إضافية، في تعلم الآداب أو في تعلم الأغنيات….
ولهذا أيضا، يحب دائما بأكثر من لغة، ولا يكره بأية لغة كانت، لكنه يعاتب بما يستطيع أن يعاتب به، كلام يسيل رائحة أو عطرا يعبق في الهواء…
في البداية، رأيناه في التعريف العام للتاريخ الصحافي الوطني، مثل أولئك المهاجرين الذاهبين من الشرق إلى غرب أمريكا، ليستكشفوا البخار والسكة الحديدية، وهو جاء إلى عالم الصحافة وعلمها، لكي يبحث للعناوين الصحافية عن سككها، ومثل خرائطي قديم، كان عليه أن يجد للصحافة المكتوبة، التي كانت تملك قسطا من التاريخ، الموزع بكلل كبير بين الشمال والوسط، جغرافيا محددة، بين الأكشاك وبين المقرات الرسمية، وبين أيادي الطلبة والقراء الفقراء.
كما لو أنه كان يعرف قراءة اليد التي ستقرأ الجريدة، لهذا رفع في تحد كبير شعار «»جريدة لكل مواطن««……
كان لي مرات عديدة، رفيق المسافة بين يأسين أو بين ضجرين…
عندما أيأس من البشرية المناضلة، يمد روحه جدارا يظللني، فكم مرة رفعتنا كلماته إلى مرتبة الصابرين لأن الحظ أسعفنا بوجوده، في لحظة الشتات العاطفي أو النضالي أو السياسي… وعندما أضجر من تركيبة السياسة، والعذاب في أوضاع لا تحتمل التحمل، يسعفني، ببيت شعر وبقصة أو بيد ممتدة نحوي كيد مدت لغريق .
سيتحدث أعزاء آخرون عن السي محمد -هكذا نسميه بيننا – وهو يجوب العالم، دفاعا عن قدرة المثاقفة على صناعة الإنسان، وكيف يمكن للكتاب أو الجريدة، أن يتحولا إلى احتمال واضح للحرية، سيتكلمون عنه وهو يرمي الجسور، بين أهل الكتاب والكتاب، وعن ولَعله بقدرة الكلمات على إلغاء الفارق بينها وبين الشمعة، في ترتيب التطور البشري نحو السمو.
لكني سأتحدث عن الرجل الشهم الذي شد بيدي، وقادني إلى مخبأ السوسنة، بأريحية فيلسوف قديم، يقود مريديه إلى مصطبة المعرفة، فقد فتح لي عوالم ما كان لي أن أدركها بمحض قدرتي على الفضول أو على الكفاح…
له قلب لا يضاهي لهذا أيها الأصدقاء في كل مكان، صدقوني حين أدعوكم لكي تضعوا اسمه في المكان الوحيد الذي يليق به، القلب، والمكان الذي يستريح فيه، الريشة.
ربما لا يعرف كثيرون أن هذه طريقتي في أن اقترح وضعه، في منطقة عازلة من ضيق الدنيا، أي حيث الله سبحانه وتعالى يوزع الطيبوبة كل فجر، على العيون النائمة، وعلى البشر الاستثنائيين مثله.
كان بودي أن أعالج هذه الشهادة، بغير قليل من مرادفات الجميل التي تبشر بقدرته على الإنصات، كأي رجل دولة منذور لخدمة بلاده.
وهو كذلك، لكن فضلت دوما أن أرى فيه رجل تاريخ.
كما يفعل الذين ينذرون أنفسهم للأشياء النبيلة، والطاعنة في الشهامة…
عرف، بسليقة صوفي بارع في الفرح أن المهمة الأولى لفائدة الوطن هي خلق رجال سعداء وحكماء ومتفانين، والباقي تصنعه الأيام… ونكران الذات والجلَد .
لهذا ينصت إليه بإمعان، ويحاوره بإصرار، كل الذين يودون أن يكون البلد حكيما، في مسيره نحو الغايات العالية.
ولهذا أيضا، يفسح مجالا واسعا للفكاهة، لكي تعوض الحياة عن بعض أعطابها التي تطرأ، ولكي يشد الانتباه أحيانا إلى جدوى الحاسَّة السادسة!
له عاطفة واسعة بما يكفي لتحمي جيلا كاملا من الأصدقاء، من كل الأنواء، وعاطفة واسعة تمسح على رؤوس اليتامى والأرامل، وعاطفة واسعة لكي تصوب المشاعر نحو سمائها الصافية.
وله عاطفة طازجة دائما، لها من ينتظرها دوما لكي تُضمِّد قلبه…
يا محمد، اسمح لي أني لم أكن في مستوى هذا اليوم، حيث كان يجب أن أكون، لكنك تدري أنك قد وضعت لي أولويات تجعلني أرى في كل خدمة للناس، عربون محبة لك.
واعذرني إذا أنا لم أعرف دائما، كيف أعتذر حين يجب أن أعتذر، ولكن : اِسْمعني وأنا أغني كما تحبني أن أغني للبلاد، وللشمس، وللشرق وللنيل الذي تعشقه.
وإذ يقول الكثيرون ما يقول الكثيرون عنك، ستبتسم وتنتظر أن أعيد محبتك من جديد كما أنت، مليئا بقلبك ومليئا بك، ضاجا بما فيه من تفرد..
شكرا لأنك كنت. شكرا لأنك أنت.

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 12/01/2024