مدوّنة الأسرة… استنبات الإصلاح في حقل ألغام -2-
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
أمّا في الردود الجماعية الرافضة من المجتمع المدني، فقد صدر بلاغ (بيان) عن رابطة غير معروفة، وذات حضور خارجي (رابطة علماء المغرب العربي التي لم تلقَ الصدى الذي توخّته)، وعن جماعة العدل والإحسان (تشتغل من خارج النسق السياسي والدستوري، وتناكف في موضوع إمارة المؤمنين من دون الإحالة عليه مجدّداً، علماً أن رفض الملك العاض أو العضوض والشرعية الدينية في رأيها موضوعان سياسيان أساسيان، وإن لم تعد تحييهما في النقاشات العامّة لأسباب يطول شرحها).
وأمّا التنسيقية النسائية من أجل التغيير الشامل والعميق لمدوّنة الأسرة، فقد سجّلت استمرار مدوّنة الأسرة في ترسيخ التراتبية، ومنح الرجل امتيازات تحرم النساء من حقوقهن الإنسانية، وتتنافى مع مبدأ المساواة، ممّا يتعارض مع الأهداف المعلنة لهذه الورشة التشريعية، في حين بادرت التنظميات الديمقراطية والتقدّمية السياسية خصوصاً إلى تسجيل ما تحقّق وتثمينه، مع الدعوة الى استمرار المرافعة من أجل “تحقيق ما لم يسمح السياق الحالي بضمانه”.
ويُعدّ المؤرّخ (والمفكّر) عبد الله العروي من أكثر المثقّفين المغاربة سِجالاً (ولو لم يكن هو نفسه ميّالاً إلى ذلك) عن عمق فكري وتقدير عقلي، وعن موضوعية تاريخانية، لا تتنكّر لانحيازها إلى الماركسية الموضوعية في قراءة الواقع المغربي، والعربي الإسلامي عموماً. ولعلّه الصوت الذي ينتظره كثيرون في هذا النقاش، وهو قد استبق النتائج بوضعه للإشكالية في عمقها، مع مراعاة قدرة المجتمع على الاستيعاب. وقد ورد في كتابه “دفاتر كوفيد” ما يأتي: “سبق لجلالة الملك أن قال في خطاب العرش 2022: باعتباري أمير المؤمنين لا يمكنني أن أحرّم ما أحلّ الله ولا أحلل ما حرّم الله. وهذا لا يفصح عن شيء عن قناعاته الحميمية الخاصّة ولا عن إمكانية تأويل كلام الله، كما أتيح ذلك في مناسبات أخرى. لقد أتيح لي أن أقول للجمعيات النسائية إنها تخطئ الطريق عند مطالبة الملك بأن يعارض رأي العلماء أو أغلبية الشعب. فإن ذلك يشبه مطالبة البابا بمباركة زواج المثليين. عندما يتحدث النسوانيون والنسوانيات عن المرأة… (يتحدثن) عن كائن ذهني لا عن كائن قانوني (الشخصية القانونية هي الشخصية التي لها حقوق وواجبات، ومن بين حقوقها الحق في إبرام عقود)، فالقانون لا يعرف سوى الابنة والزوجة والأم أو الأرملة أو المطلقة. والصعوبة لا ترتبط بالدين، بل بالاقتصاد. ففي مجتمع الوفرة، يمكن أن يحضر الفاعل الديني بارزاً، ويمكن أن يوضع موضع مساءلة عن صواب وعن حق… لكن ليس في مجتمع الحاجة حيث فكر وسلوك كلّ واحد تمليه المصلحة أولاً وقبل كل شيء… ولا يمكننا الإفلات من هذا الوضع كما هو إلا بمغادرة الساحة الجماعية بطرح المشكلة على المستوى الفردي المحض، بحيث يكون كلّ واحد مجبراً على أن يرى نفسه في المرآة، ويقرّر إلى أي حدّ يمكنه أن يمتثل لنزواته الأنانية… والحل الذي وضعت ملامحه، ويمكن أن يقترح على الدولة بكل عقلانية هو اقتراح الوصية الإجبارية، فالدولة تفرض على كلّ واحد تصريحاً بالثروة ومصادرها، ويمكنها والحالة هذه أن تجبر كلّ واحد على أن يُعرب عمَّا ينوي القيام به بهذه الثروة، بكل حرية وبكامل وعيه”.
والمثقف الديني أو الداعية هو نفسه يتعامل مع المؤمن الذكر بنظرة الكائن الذهني، أي ذلك الذي ترشّحه الكتب الدينية وسيرة العصر الذهبي لأن يكون نموذجاً مثالياً للذكورة في الكون. في حين أن المسلم الواقعي قد يكون عكس ذلك، قد يكون شيطانياً منقطع النظير في حالات اجتماعية تفرض عليه أنانيته فيها أن يلتهم أفراد أسرته.
والسؤال هو كيف يستطيع المغرب المسلم أن يجد الملاءمة بين ثوابت العقيدة السماوية والاتفاقيات الحقوقية المتعارف عليها كونياً؟ … يكمن في النبوغ المغربي، بإعداد الاجتهاد البنّاء، وكذلك في جعل الدستور، مُعبّراً لإمارة المؤمنين من المبادئ نحو القوانين. من الاستثناء المغربي أن التحديثي والتقليداني يجدان معاً مرجعيتهما في إمارة المؤمنين، حتى إنك تجد اليساريين أكثر المدافعين عن قدرتها الإصلاحية وضمان التجديد، وتجد التقليدانيين أكثر تشبّثاً بها في الحفاظ على الثوابت والترشيد المضبوط. ذلك أن المتّفق عليه مغربياً هو أن أمير المؤمنين لا ينتج نصوصاً دينية، بل يتيح للمواد الدينية المتّفق عليها أن تكون قوانين (كما نشاهد اليوم)، وهو أمر بالغ الأهمية، ويعتبر الطريق من المبادئ الدينية إلى القوانين. حتى إن الذي يسترعي الانتباه في حالتنا اليوم هو أن التعديلات التي تمّ التوافق عليها صارت بيد الحكومة التي ستحيلها على البرلمان ليتابع المسطرة، باعتبارها قوانين وتخضع لما تخضع له مشاريع القوانين الأخرى، وفي هذا لا بدّ من الانتباه إلى جوهر العملية كما اتفق عليها كثير من الباحثين، منهم عبد لله العروي ومحمد الطوزي وأحمد التوفيق، ومن ذلك:
أولاً، ربح المغاربة إمارة المؤمنين بقوة الدستور، حيث أصبحت مؤسساتية ومُدسترة.
ثانياً، هذه العملية توضح بقوة طريقة المغرب في تدبير فصل السياسة عن الدين عبر مأسَسة إمارة المؤمنين. ولهذا نفهم إحالة ملك البلاد عليها مع التشديد على قوله “أنا لا أحلّل حراماً ولا أحرّم حلالاً”.
ثالثاً، الملك مسؤول عمّا يُنقَل بوصفه مبادئ وقواعد دينية إلى الحقل السياسي.
رابعاً، الملك لا يُقرّر في الدين، بل في القواعد التي قد تصبح قوانين، ويعطي رأي المؤسّسة التي يمثّلها، ويقدّم صورةً عن تدبير الدولة للحقل الديني كما عاشه المغاربة منذ 2003، وترسّخ منذ 2014.
خامساً، وضوح المسافة جليّاً بين السياسة والدين، والانتقال بينهما. ومنها أن إمارة المؤمنين لا تقوم بإنتاج المعايير الدينية أو صناعتها، بل تدقّق وتحدّد انتقالها إلى الحقل السياسي.
سادساً، المغرب لا يوجد فيه إفتاء شخصي، أي لا عالِم يمكنه أن يدّعي أن رأيه قانون، فالفتوى صارت جماعية، وصار الإفتاء مؤسّساتياً. ويمكن في بعض الأحيان أن يصدر ما قد يزعج من طرف بعض العلماء، لكن لا يمكن لأيّ أحد أن يقول إنّ رأيه الديني هو القانون.
(يتبع)
نشر ب«العربي الجديد»
الثلاثاء 31 دجنبر 2024
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 04/01/2025