مصالحات «البوليساريو»: تأملات لا تخلو من تفكه

عبد الحميد جماهري
لم يبق بين يدي ميليشيات البوليساريو لإقناع أناسها وحراسها وعشاقها القلائل، سوى الاعتراف بضحاياها لكي تثبت بأنها… دولة حقا!
ولا أود الدخول في التفاصيل المقترحة للمصالحة، لأن نقاش التفاصيل يكون أحيانا مضللا بلغة الكبير عبدالله العروي، لكن القصة هي أن قيادة «الرابوني» أعلنت بأنها ستشرع في مسلسل المصالحات مع ضحايا الماضي، وتقديم جبر الضرر المادي الذي يترجم، في جزء منه، هذه العدالة الانتقالية.
وبذلك تحاول الجبهة، ومن يسعى وراءها، إلى توهيم المحتجزين والضحايا أنها دولة تقوم بنقد ذاتي وتسعى إلى طي صفحة الماضي كما يليق بالدول التي تريد أن تخلق حالة
تعبئة وطنية من أجل إنجاح انتقالاتها، ومنها الانتقال الديموقراطي والانتقال إلى مرحلة جديدة من عهد إلى عهد.
كل المصالحات التي عرفها القرن العشرين، قامت بها الدول القائمة الذات، أو التي توافقت على مراحل جديدة، من الشيلي في أمريكا اللاتينية إلى جنوب إفريقيا والمغرب في القارة السمراء، إلى إسبانيا واليونان…
على كل هناك الكثير من الحجب والأحجيات في قصة المصالحات الانفصالية.
الحجاب الدخاني الأول المراد من وراء هذه الأحجية: هو أن الجبهة وجدت نفسها، في قلب معركة حقوقية، كانت تعد بالنسبة لها الجبهة البديلة في حربها الديبلوماسية والعسكرية ضد المغرب، وبعد أن فشلت، كما فشلت معها الجزائر في هاتين الجبهتين وجدت نفسها في قلب المساءلة، وتعددت الجبهات في العالم من تقارير الاتحاد الأوروبي، إلى تقرير الأمين العام الأممي الأخير (الذي تحدث عن تقزم الأطفال المولودين في المعسكرات الانفصالية فوق التراب الجزائري) مرورا بمناقشات مجلس حقوق الإنسان في جنيف وتقرير منظمة غوث اللاجئين وما يتعلق بإحصاء الساكنة.. وكلها أعاصير كبيرة هزت الميليشيات وهزت معها الدولة التي منحتها كفالة للصرف فوق ترابها، في حالة حقوقية وترابية وسياسية فريدة في العالم. علاوة على القضايا التي اتخذت أبعادا أخرى أكبر أمام المحاكم، لا سيما في إسبانيا والتي تطارد قادة البوليساريو بخصوص قتلى وضحايا من غير الأعضاء، أي إسبانيين قتلهم المسلحون الانفصاليون..
وتريد الجبهة وخصوصا عرابها التوهيم بأن الانفصاليين ناس حقوق ومصالحات ونقد ذاتي ومشاركات حقوقية! بدون أن يؤدي ذلك إلى تغيير في طبيعة الجلاد ولا في طبيعة العلاقة مع الضحايا…
هذا التوهيم لا يمكن أن ينطلي على أحد، لا على الضحايا ولا على المنظمات الدولية بالأحرى على الأمم المتحدة وهيئاتها ومنها مجلس الأمن..
ولعلها أغرب تجربة في المصالحة في تاريخ البشرية، وهي إثبات وجود دولة وهمية بوجود ضحاياها الحقيقيين ، من لحم ودم وعظام وتراب…
التوهيم الثاني، في تقدير العبد الفقير لرحمة ربه، هو تزامن إعلان المصالحة الانفصالية مع مهرجان المصالحة الفلسطيني !
والتزامن يعطي المعنى لمن يريده من أنصار الشعارات والصور. وقد تعمدت الآلة الرسمية الجزائرية هذا التزامن. وهو تقدير العبد الضعيف لربه، الذي يرى فيه بأن العاصمة الجزائرية تريد أن تقدم روايتها لما «تعتبره قضيتين متساويتين» بدون التدقيق في الفرق الكبير والجوهري ، الروحي والوطني والتاريخي بين قضية عادلة تحظى بمساندة العالم كله وقضية نزاع إقليمي أراده عصاب عسكري سياسي لطبقة فشلت في كل أنواع الانتقالات التي توظفها لتلميع صورة تآكلت..
التوهيم الثالث إعطاء الانطباع بأن الضحايا ما زالوا يكابدون انتماءهم إلى الجبهة، وأن تعبئة داخلية قائمة لكي يعودوا للعمل تحت راية الانفصال، والحال أن الكثيرين اختاروا طريقا آخر، أغلب مساراتهم أفضت بهم إلى الالتحاق بالوطن الأم، والذي قام بالمصالحات منذ ربع قرن، بما فيها المصالحة مع أبنائه في الصحراء.
والواضح أن قيادة الانفصال، التي كان عليها أن تتصرف كقيادة حركة سياسية انفصالية، وتضع المفاتيح كما نقول، وتترك للضحايا أن يتخذوا المسار الناضج الذي بدأت أغلب عناصرها تقتنع به، تريد مواصلة الوهم والعمل بالأجندة الجزائرية، وتسويغ تاريخ الجريمة من أجل تاريخ جديد للوهم الانفصالي.. والحقيقة أن الأصوات التي ارتفعت، سواء قبل خط الشهيد أو في سياق «صحراويون من أجل السلام» أو التي سبقت مع عودة الكثير من القادة الذين اقتنعوا بالطبيعة البولبوتية (نسبة إلى بول بوت الخمير الحمر) من عقود، هي أصوات تحولت إلى صوت الحقيقة في خدمة مقترح الحكم الذاتي وتحرير أبناء المخيمات ..
التوهيم الرابع هو محاولة عزل المخيمات وأبنائها عن الديناميات التي انطلقت من قلب المغرب وديبلوماسيته، والتي كان جلالة الملك قد عبر عنها منذ 2017 بمناسبة الذكرى الثانية والأربعين للمسيرة الخضراء، والذي ورد فيه «بعد تحرير الأرض، نواصل العمل، بنفس الالتزام، من أجل (…) تحرير أبنائنا بالمخيمات..». وهي قضية موجودة في قلب المعارك التي يخوضها المغرب من أجل استكمال تحرير الأرض والإنسان..
لا شك أن كثيرين سيرون أن التفكير «بجدية» في مبادرة التائهين في سراب «الرابوني» قد يعطيها ما تريده قيادتهم، والحقيقة أن من المفيد الإمعان في النظر في حجم السراب لنفهم مقدار العطش الذي يحرك التائهين..
وليس هناك بؤس أكبر من أن تتصرف الجماعة المسخرة كما لو أنها دولة، ولا تجد سوى ضحاياها لإثبات ذلك، بعد أن أدرك العالم أنها أصل الداء!
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 25/10/2022