مفارقات العلاقات التركية الجزائرية..على ضوء التموقع المغربي!

عبد الحميد جماهري

لم يغب عن المتتبعين أن العلاقات التركية الجزائرية، في سياق الزيارة التي قام بها الرئيس «عبد المجيد تبون»، في بداية الشهر الجاري، ضاعفت فيها أنقرة تمارين التوازن الجيو ـ ستراتيجي في شمال إفريقيا والساحل جنوب الصحراء، بمجهود كبير للغاية، لاسيما في منطقة تتحول فيها قواعد اللعب باستمرار، وتتغير بشكل غير متوقع.
فقد كان على الرئيس التركي الطيب أردوغان أن يستقبل نظيره الجزائري بعد يوم من وصوله لتوقيع ما يناهز 15 اتفاقية اقتصادية وثقافية وصناعية ذات طبيعة عسكرية ومدنية وغير ذلك من جوانب التعاون بين وريث العثمانيين ودولة «الإيالة» في الزمن الباشوي.
غير أنه لا بد من تسجيل ثلاثة معطيات رافقت هذه الزيارة:
أولا: سبقتِ الزيارةَ الرسمية للرئيس الجزائري الى الأناضول، والاحتفاء الشخصي النظامي والرسمي بنتائجها، لحظةٌ فارقة حاولت فيها الجزائر أن تؤثر على مواقف تركيا إزاء دولة من دول شمال إفريقيا، وهي المغرب.
والقصة هي أن وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو الذي كان حاضرا في مراكش لحضور المؤتمر الذي عقده «التحالف الدولي ضد داعش»، الأول من نوعه فوق أرض إفريقية، صرح في بلاد المغرب الأقصى بأن تركيا تدعم الوحدة الترابية للمملكة. وأكد مولود أوغلو، خلال ندوة صحفية مشتركة مع وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة، تجديد التأكيد على الموقف المبدئي لتركيا بخصوص الوحدة الترابية للدول وسيادتها، وأن تركيا تدعم سيادة المغرب الشقيق ووحدته الترابية.
هذا التأكيد كان سببا كافيا لكي تتحرك الجزائر وتضغط، بغير قليل من الهجومية والنزعة الصدامية، كي يدلي السفير التركي في الجزائر بمواقف تريدها الجزائر مسايرة لطموحها.
وقد كان لافتا أن محاولة جر السفير التركي إلى موقف من هذا القبيل، تزامنت مع بيان مكتوب بِمْنسوب عال من العدوانية، لغة وموقفا وهدفا، ضد المغرب.. اتهمت فيه خارجية الجارة الشرقية للمغرب، هذا الاخير بأنه «حوَّل الموتمر المناهض للارهاب إلى منصة» للدفاع عن سيادة المغرب على صحرائه، مستنكرة تارة أو مهاجمة أحيانا أخرى مواقف وزراء الخارجية الحاضرين الذين بلغ عددهم 80 دولة.
وكان واضحا أن النخبة الحاكمة في الجزائر منزعجة انزعاجا كبيرا من المواقف المعلنة على هامش المؤتمر، ولا سيما لدول من قبيل مصر وهولندا وغيرها من الدول الأفريقية والأوروبية..
ولعل التزامن الذي حصل بين الزيارة ورد الفعل المتشنج من الجزائر إزاء مواقف وزير الخارجية التركي، لم يكن هو الوحيد الذي يسترعي الانتباه وقراءته في سياقات ما هو أكبر من زاوية النزاع الثنائي المغربي – الجزائري.. وهو ما يقودنا الى الموضوع الموالي، من حيث جدول أعمال المؤتمر الدولي نفسه في مراكش.
ثانيا: الموضوع الثاني الذي كان له علاقة وطيدة بالزيارة وبالآفاق التي وضعتها تركيا لها، يتعلق بالمؤتمر نفسه في شقه المتعلق بدول الساحل ـ جنوب الصحراء وعلاقتها بالإرهاب.
فقد أصبح من المتفق عليه دوليا أن الإرهاب اليوم، اختار قاعدة له في دول الساحل وجنوب الصحراء، وأن الشريط الساحلي الصحراوي الذي يضم مالي والنيجر وبوركينا فاسو ونيجيريا، في شقها الشمالي، وتشاد امتدادا إلى موزمبيق، قد أصبح ساحة التحرك المثلى لهذه التنظيمات التي أعلنت في غالبتيها ارتباطها مع الجهادية في شخص تنظيم «داعش».
بالتالي، فإن المؤتمر الذي احتضنته مراكش ، كان مرتبطا بالتطورات الحاصلة في المنطقة، في مجال الجوار الصعب للمغرب جنوبا، وأيضا في الامتداد المجالي للجزائر التي تربطها حدود طويلة مع دول القلق الإرهابي، هي التي سبق لرئيسها عبد المجيد تبون أن اشتكى في لقاء مطول مع وزير خارجية أمريكا «انطوني بلينكن» من الحدود الحارقة لهذه الدول، وتقديمها كدول عاجزة عن ضبط سلامة حدودها..
والمقلق في القضية بالنسبة للجزائر، هو أولا غيابها عن هذا المحفل الدولي، الذي حضرته تركيا وعبرت خارجيتها عن تشكراتها لدعوة المغرب لها ، في وقت كانت الجزائر تقدم نفسها الدولة التي خاضت أطول حرب ضد الإرهاب في منطقة شمال إفريقيا، وتقدم نفسها كحلقة لابد منها في أي محور دولي لمحاربة تواجده في القارة السمراء.
النقطة الثانية في القلق الجزائري هي نجاح المغرب، من خلال الوثيقة المعتمدة في المؤتمر، ثم في البيان الختامي في «الربط بين مخاطر الانفصال ومخاطر الارهاب».. وقد ورد في البيان الختامي أن الدول الأعضاء في التحالف الدولي ضد داعش ، أعربوا «عن قلقهم إزاء انتشار الحركات الانفصالية في أفريقيا، والتي تولد زعزعة الاستقرار وزيادة ضعف الدول الإفريقية». وهذا الشرط ترى فيه الجزائر مقدمة لضم الحركة الانفصالية في شمال إفريقيا بما فيها حركة «البوليزاريو» إلى خانة المنظمات الإرهابية، باعتبار أن الحركة الإرهابية والانفصالية تعملان معا على استعمال الوسائل غير المشروعة في تغيير الوظيفة الحدودية للدول وكياناتها..
وتركيا التي تواجه نزعات انفصالية في جزء من ترابها، كما أنها تعاني من مواجهة الإرهاب ـ بحسب قناعاتها وتوصيفاتها ـ وهي عضو في التحالف الدولي ضده، لها مواقف متزنة ومبدئية من حيث المواقف ضدهما، وهي في تجربتها الخاصة لا تفرق بينهما معا، في المواجهة العسكرية والفكرية والجيوـ ستراتيجية، وهي نقطة خلاف جوهرية مع الجزائر التي تحاول تسويق البوليزاريو كحركة تحرر وطنية..!!
ثالثا: الزيارة كانت مناسبة للرئيس الطيب أردوغان للحديث عن منطقة الساحل وباقي إفريقيا من جوانب التواجد الجيو ستراتيجي. واختار أن ينوه باتفاقية الجزائر الخاصة بمالي والتي وقعتها أطراف النزاع في 2015..

وكان لافتا أن الطيب أردوغان أشار الى حيث تريد بلاده أن يكون لها موقع قدم متقدم عن السابق، في تزامن مع انسحاب فرنسا من المنطقة، باريس التي قاد ضدها حرب الذاكرة مستعملا التاريخ الجزائري نفسه..!
وقد ساهمت لحظات التوتر هاته مع فرنسا، التي وصلت حدودا تجاوزت اللياقة الديبلوماسية في دفع أنقرة الى وضع تصورها، حيث توجد فرنسا الوارثة للخارطة الاستعمارية..
وقد عددت أنقرة من طبيعة تواجدها في دول الساحل، ورفعت من حضورها روحيا وعسكريا واقتصاديا، في عرض متعدد الأبعاد يثير الكثير من المقاربات والتحاليل.
ولعل أهم نقطة في التحرك التركي، هي الدخول عن طريق عن الجزائر، التي أعرب رئيسها عن الرغبة في «عمليات مشتركة مع الجانب التركي لمكافحة الإرهاب «… ولعلها فرصة لتركيا للدخول الى مناطق الغرب الصحراوي للجزائر.
والحال أن تنافسيتها لا تقف عند «الديك» الفرنسي، بقدر ما تهم دولا أخرى من الدائرة العربية الإسلامية، بالرغم من التحولات التي تحدث في الآونة الأخيرة، ولا سيما إزاء مصر وإزاء الإمارات العربية المتحدة.
وقد كان لافتا في الأعراف الديبلوماسية أن الرئيس الطيب أردوغان سارع الى حضور مراسيم تشييع رئيس الإمارات الراحل، وحضوره شخصيا في الوقت الذي كان فيه الرئيس الجزائري ما زال فوق التراب التركي، وهو مايعني أن ديبلوماسية الجنائز، كما يقولون، لم تقف كثيرا عند حدود اللباقة إزاء الضيف الشمال إفريقي، وهو ما يعكس الحرص التركي الجديد على العلاقات مع العواصم المنافسة أو العدوة في مرحلة سابقة..
لقد أعطى وجود الحركات الجهادية بمنطقة الساحل، مشتركا دوليا، أي وضعا جيو – ستراتيجيا تتلاقى فيه الحسابات الكبيرة والعديد من الاستراتيجيات المتناقضة..
وفي وقت لاتزال تركيا تروج أنها، في جزء مهم من تحركها تعتمد على «القوة الناعمة في اختراق هذه الدائرة الملتهبة» لا سيما في المنطقة المسماة «الحدود الثلاثة «مالي، النيجر وبوركينافاسو»..
يعكس وجود قاعدة عسكرية في الصومال والاتفاقيات العسكرية مع النيجر بدون الكشف عن تفاصيلها، نزعة نحو حياة التواجد الاقتصادي بكل الوسائل.
بل نجد أن الإيديولوجيا لا تغيب عن تركيا في دعم حركات الاسلام السياسي في بعض هذه الدول، وكل ذلك في خدمة للمصالح الاقتصادية والجيوسياسية….
وفي الوقت الذي تستعيد ذاكرة الطرق الحضارية، لتقاليدها العتيقة كما هو حال الصين مع طريق الحرير والحزام، تسعى أنقرة الى تتبع المسارات التي شكلتها الجمهورية العثمانية في تاريخ سابق، عبر بوابات قديمة حديثة.. يبدو أن التواجد المضطرد لتركيا في المنطقة، يمثل عنصر إذكاء للتنافس الجيوستراتيجي، بدون القدرة على «قلب الديناميات الإقليمية بشكل جذري». حسب تقرير لمجموعة البحث في الأزمات «كريسي غروب»..
في المقابل، تبدو الأولوية الرئيسية لدى الجزائر، في العودة القوية لتركيا، ذات أبعاد اقتصادية ومالية، حيث احتفى الرئيس «تبون» بالاتفاقيات التي ترفع «مستوى التبادل التجاري إلى 10 مليارات»… تحتل فيها الصناعات العسكرية نسبة مهمة!
وفي هذه النقطة أيضا، لا يبدو أن هناك تفوقا جزائريا خاصا بالرغم من حجم الوعود المالية القادمة بفضل الصناعات العسكرية، حيث أن المغرب يعد زبونا مهما لتركيا التي يلبي منها حاجياته العسكرية مع تنويع مصادره من الأسلحة.. وقد سبق للمغرب أن اقتنى 13 طائرة تركية مسيرة من طراز «بيرقدار تي بي 2» في الفترة بين أبريل وشتنبر من السنة الماضية، في سياق تطوير قدرات الجيش المغربي في المجالات الحديثة من التسلح، وهي ليست الاتفاقية الوحيدة، في الآونة الاخيرة، بحيث أن المغرب طور التعاون على مستويات أخرى، حسب مصادر متطابقة، بالحصول على عتاد عسكري تركي متقدم، أثبت قدراته في الحروب الجديدة «الهجينة» في شمال العراق وسوريا .. حيث معاقل الإرهاب والانفصال… وداعش!

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 27/05/2022