من‮ ‬يُنقذ الجندي‮ ‬أنطونيو‮ ‬غوتيريس؟

عبد الحميد جماهري

وجد الأمين العام للامم المتحدة أنطونيو غويتيريس نفسه محاطا بالكراسي‮ ‬المتحرّكة في‮ ‬مجلس لا‮ ‬يتحرّك‮. ولعله‮ قبْل ذلك استسلمَ‮ ‬للأمل‮ ‬في‮ ‬أن سلاحا قديما لم‮ ‬يُستعمل منذ عقود،‮ ‬هو المادة‮ ‬99‮ ‬من ميثاق الأمم المتحدة، كفيل بأن‮ ‬يكشف عن مهاراته العسكرية في‮ ‬مواجهة ضراوة الحرب،‮ ‬وتّجارها، وبأن‮ ‬يوقف آخر تقنياتها وحشية‮. ومن المفارقة أن غوتيريس هو‮ ‬نفسه الذي‮ ‬وجد التعبير الصالح لوصف حالته‮، ‬ووصف منظمة دولية مهمتها الحركة من أجل السلام‮: ‬الشلل‮!
‮تأسّف ‬أنطونيو‮ ‬غوتيريس،‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬يتحدّث أمام منتدى الدوحة، لـ»فشل مجلس الأمن» ‬باتخاذ قرار بوقف إطلاق النار في‮ ‬قطاع‮ ‬غزّة‮ ‬»بسبب الانقسامات الجيواستراتيجية‮». هي‮ ‬طريقته للقول إن الحرب تسير‮ ‬في‮ ‬طريقها الدموي‮ ‬السيّار،‮ ‬لأن حسابات العواصم تختلف عن بعضها‮: ‬بين من‮ ‬يرى الدم عملة جيدة‮ ‬في‮ ‬بورصة القيم الميركانتيلو ـ إمبريالية في‮ ‬كسب مزيد من المواقع والمصالح والحلفاء،‮ ‬ومن‮ ‬يرى‮ ‬أن هدف السلام‮ هو حماية شعب‮ٍ من إبادة جماعية، ولا بد من هذا السلام‮، ‬لكي‮ ‬يجد المنقسمون على توزيع الخريطة الجديدة للشرق الأوسط مكانا هادئا للتفاوض‮.
غوتيريس محاصر بالشلل، ‬في‮ ‬وقت الحرب. ‬لهذا‮ ‬يتوفَّق للغاية في‮ ‬تأزيم‮ ‬ما تبقى‮ ‬من الضمير الأميركي‮ ‬المتبقي‮ ‬من عالم حر فقَدَ‮ ‬الكثير من قيمه،‮ ‬عندما‮ ‬يقف وحيدا في‮ ‬طريق‮ الجلجلة وأمام الجيوش المتحالفة ضد جثث الأطفال الفلسطينيين‮: ‬ولعله‮ ‬يُؤزِّم أميركا بذكريات ما احتفل به خيالها الهوليوودي،‮ ‬وهي‮ ‬تصنع فيلم «إنقاذ الجندي‮ ‬رايان‮» ‬لمخرجه ستيفن سبيلبرغ‮: ‬إنقاذ قلب أم من فاجعة رابعة‮، بعد أن نالت الحرب حصتها كاملة من الأسرة بموت ثلاثة أبناء،‮ ‬والعمل على وقف القدر العسكري‮ ‬في‮ ‬اختطاف الجندي‮ ‬رايان،‮ ‬الابن الرابع‮. ‬
‮في‮ ‬الاستبدال الرمزي ‬،‮ ‬يقف‮ ‬غوتيريس ليحدّث العالم عن عائلات بلاد‮ ‬غزّة تباد‮ عن بكرة آبائها وأبنائها،‮ ‬وشعبٍ‮ ‬يُدفع إلى مقبرة جماعية بلا نشيد ولا إنجيل عسكري‮. ‬وغوتيريس ليس بطلا،‮ ‬لكن‮ جو بايدن‮ ‬الذين أفشل‮ وقف الحرب جعل منه‮ «‬أخيل‮» ‬التراجيديا الجديدة في‮ ‬القرن الواحد والعشرين‮: ‬نقطة ضعفه هي‮ ‬السلام بالذات،‮ ‬في‮ ‬موقع‮ ‬يكون فيه المنطق الحاكم ميزان القوة‮… ‬بل الإفراط فيها إلى درجة تخرج عن التصنيف‮.
يتحسّر‮،‮ ‬كَمنْ‮ ‬فوجئ بما في‮ ‬السياسة الدولية من مكائد وبأن‮ «سلطة مجلس الأمن ومصداقيته‮ ‬قد جرى تقويضها بشدة‮»‮. ‬ولعله انتظر،‮ ‬مثل كل المحاصرين تحت القنابل والقذائف والأمطار،‮ ‬أن‮ ‬يكون لاستعماله‮ ‬المادة‮ ‬99‮ ‬من ميثاق المنظمة الأممية‮ قوة سحرية تعادل وعود الآلهة في‮ ‬تراجيديا إغريقية تتجدّد في‮ ‬يوم الناس هذا‮، ‬وأن حرصه على مصداقية المجلس هو من باب الدفاع عن عقيدة هو مؤمن بها‮… ‬بعد أصحابها طبعا‮.‬ لكنه، في‮ ‬كل الأحوال‮، ‬نجح في‮ ‬أن‮ ‬يوسّع من‮ ‬وضوح الفارق‮ ‬الأخلاقي وحجمه‮ ‬بين أعضاء المجلس‮ (41) ‬وبلاد العم سام التي‮ ‬انتصرت للحرب وحدها،‮ ‬وانتصرت أيضا لما ستُحدثه من فراغ‮ ‬أخلاقي‮ ‬في‮ ‬عالم هو في‮ ‬حاجة إلى منظومته حاجة المحتضر للهواء‮.
لقد نجح أيضا في‮ ‬إحداث الشرخ الضروري‮ ‬وسط المجموعة الغربية الشاملة التي‮ ‬وقفت، بلا شعور بالذنب، إلى جانب القتل الجماعي‮ ‬وجرائم الحرب‮. ‬وانحازت إليه لندن وباريس (‬بعد دخول الحرب شهرها الثالث‮)‬،‮ ‬عوض المسارية العمياء التي‮ ‬طبعت مواقف العاصمتين الأوروبيتين منذ بداية الحرب‮.
‮اعتقد ‬الجندي‮ ‬غوتيريس أن رسالته التي‮ ‬أشهرها في‮ ‬وجه الأقوياء، كي‮ ‬ينبه إلى ما‮ «يمكن أن‮ ‬يعرض السلام والأمن الدوليين للخطر‬‮»،‮ ‬بمثابة تلويحة سماوية لحماية العالم من رغبته الانتحارية،‮ ‬أو تعويذة أسطورية تعود إلى حقبة كان الإنسان إنسانا‮ ‬يأسف لموت كائن واحد‮ (الجندي‮ ‬رايان مثلا‮!)،‮ ‬وكانت البشرية ترفض الإبادات‮،‮ ‬واعتبرت أن الأمم المتحدة هي معبدها الذي‮ ‬أقامته بعد الحرب العالمية التي‮ ‬اشتعلت فيها الوحشية‮‬،‮ ‬لكن ما ‬وقع أن الذين ورثوا الرأسمال،‮ ‬المادي‮ ‬والروحي‮، ‬لهذه المنظمة الأممية‮، ‬التي‮ ‬وُلدت من رماد الحروب بتخصيب‮ ورود السلام، صارت تبحث عند معنى لعقيدتها وَجدْواها،‮ ‬مع حرصٍ مبالغ‮ ‬فيه على أن تلتزم الشعوب الضعيفة، حصريا، ‬بالالتزام بقراراتها‮.
لقد ختم‮ ‬الجندي‮ ‬أنطونيو‮ ‬غوتيريس مرافعته من أجل‮ ‬غزّة والسلام بما‮ ‬يشبه الوداع‮. ‬كما لو كان‮ ‬يدري‮ ‬أن لإغضاب‮ ‬تل أبيب وواشنطن ثمناً‮ معروفاً،‮ ‬وأن الذين‮ ‬يسمحون بقتل عشرين ألف مدني،‮ ‬نصفهم أطفال، لن‮ ‬يتذكّروا في‮ ‬غمرة الهجوم جنديا اسمه‮ ‬غوتيريس‮. ‬لهذا قال‮: «‬يمكنني‮ ‬أن أعدكم، ‬أنني‮ ‬لن أستسلم‮». وهي‮ ‬عبارة لا تحبها واشنطن ولا تل أبيب، لا منه ولا من المقاومة‮. ‬وبالرغم من ذلك،‮ ‬لقد أقام الحقّ دروعا بشرية في‮ ‬كل الكرة الأرضية،‮ ‬من الذين ما زالت الإنسانية مهنتهم اليومية وجدواها التي‮ ‬يحيوْن بها،‮ ‬في‮ ‬العواصم كلها، تتحرّك هذه البشرية العظيمة‮ ‬من أجل أن‮ ‬يبقى للعيش المشترك فوق الأرض طعم القيم، وهؤلاء سيحرّرون السياسة من معادلاتها البائسة،‮ ‬المعادلات التي‮ ‬تلغي الشعوب‮ ‬لفائدة المُرَكَّبات الصناعية ـ العسكرية ـ الدينية‮‬،‮ ‬مُركَّبات المقدس الفاشي،‮ ‬والإنتاج الاستعماري‮ ‬والتسليح العدواني‮.
ختاما،‮ ‬أذكر أن العبد الفقير إلى رحمة ربه كتب، قبل ثماني سنوات، ‬في‮ ‬»العربي‮ ‬الجديد‮»، مقالا بعنوان «أميركا العملاق المارق بلا أزمة ضمير‮» (19/5/2015)، وفيه أن‮ «‬المهارة العسكرية الأميركية،‮ ‬عندما تجتهد،‮(…) ‬عادة ما تقدّم دروساً‮ ‬غاية في‮ ‬الصغر‮ ‬في‮ ‬قضايا في‮ ‬منتهى الخطورة،‮ ‬فالدولة الكبرى،‮ ‬القوية،‮ ‬لا تعطي‮ ‬دروساً‮ ‬كبيرة،‮ ‬وقوية،‮ ‬أيضاً‮ ‬في‮ ‬القانون،‮ ‬لكي‮ ‬تسند أسطورتها المادية على جدار العدل‮…‬فلم‮ ‬يعد العالم،‮ ‬اليوم،‮ ‬يقف مطوّلاً‮ ‬أمام الشكليات القانونية،‮ ‬لكي‮ ‬يتساءل: إلى أي‮ ‬درجة‮ ‬يمكن أن تكون أميركا الكبيرةُ‮ ‬كبيرةً‮ ‬في‮ ‬القانون الدولي‮». ‬

نشر بالعربي الجديد يوم 12 ديسمبر 2023

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 15/12/2023