من ينقذ الجندي ماكرون من… السلام!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

يبدو الرئيس الفرنسي، في الشاشة الكبرى للعالم القرية، كمثل نجم في مختبر صناعة أسطورته الشخصية، ولهذا يعطي الانطباع بأن الكثير من تحركاته هي حوارات في فيلم سينتهي قريبا‫.‬
شخصيا أتابع بغير قليل من الجدية ما يقوله وما يفعله وما يوحي به، قدر المستطاع طبعا، وذلك منذ أن فتن الرجل شباب اليسار وشباب الوسط وشباب اليمين، بقدرته على إنهاء معادلات سياسة راسخة في التاريخ، وفتح أبواب مشرعة على المفاجآت‫..‬ كان هو الأمل في أن الطبقة التي حكمت بلاده، ومن ثمة البلاد التي تأثرت بها، يجب أن تساق إلى خارج الملعب بكل ما يليق من أناشيد ومزامير وطبول‫..‬ حتى لا تجد نفسها غريبة وهي قرب المقبرة النهائية للتاريخ‫.‬
ومن هنا ترك الرجل الانطباع بأنه رجل قدري، هبة من نهر السماء الخفيضة إلى نهر السين المخترق لباريس‫.‬
عندما انتخب للمرة الثانية وجد نفسه في فخ انتصاره الأول، بحيث لم يجرب وقتها قدرته على ترويض الطبقة السياسية وممثليها الرسميين في الفرق البرلمانية‫.‬
لا يهمني من هذا المشهد سوى أنه بعد أن تعذر عليه النصر الكاسح في الداخل، بدأ في تسويق نفسه كرجل قدري في إحلال السلام في العالم، وهو يبحث عن دور “الوسيط الناجح” في تقليص مشاكل العالم والتخفيف من مخاوف الأوروبيين واللاتينيين ومن مخاوف البشرية…
منذ انتشرت تلك الصورة أمام بوتين الذي وضع بينه وبين ماكرون مساحة كييف من الأمتار، ضمنت بأن مهامه في إقناع الدب الروسي المهاجم ضئيلة جدا في وقف الحرب، وبدا لي أن الدور الجديد على الساحة الروسية الأوكرانية قبل الانتخابات الرئاسية وبعد الانتخابات التشريعية ليس هو نفسه، ففي المرة الثانية تقلص هامش المناورة لديه على الساحة الوطنية فعوضه ببحث محموم عن “دور الوسيط الناجح” بلغة سيلفي بيرمان، السفيرة السابقة لفرنسا في الصين وبريطانيا وروسيا، الذي يبدو أنه استحلاه واستمرأه.
هناك جدل واسع يصاحبه مثل قرع الطبول الحربية في مساعيه للسلام، وذلك واضح من السخرية التي تعقب كل تصريح له أو الحقائق التي تتأكد في الميدان‫.‬
وأكد الرئيس الفرنسي في منتدى باريس للسلام **** الجمعية الوطنية، مساعيه، فشل إلى حد الساعة في أن يكون له دور في الحرب الروسية الأوكرانية، بعد أن احتل عدوه اللدود الطيب أردوغان المساحة المخصصة في موسكو لمثل هاته المساعي‫.‬
وقد يفشل المرء وينجح عدوه لا بأس، لكني، ككل متابع لم تبق له من فصول الإعجاب السابقة سوى بعض الحركات المتفهمة، لم أفهم كيف حاول أن يقنع الرئيس الصيني العائد بقوة إلى الساحة الدولية بعد التزكية الواسعة داخل بلاده، بأن “الضغط على روسيا هو لفائدة الصين..!”‫ ‬والحال أن العاصمتين بيكين وموسكو تتحركان على أساس أن الغرب، والحلف الأطلسي عموما، يعود بالعالم إلى الحرب الباردة وهو ما قررا معاكسته‫!‬
ولم يحاول ماكرون الدخول على الخط من باب السور الصيني العظيم إلا بعد أن كان جو بايدن قد رتب اللقاء الثنائي بين القوتين اللتين تستقطبان كل تساؤلات العالم وانتظاراته‫!‬ وخلال منتدى باريس، حاول ماكرون إحياء الحوار، وفي الواقع وعكس ما يقول مستشاروه، لا يبدو أنه ينجح في اختيار مواضيع تدخلاته السلمية في العالم، وكمثال على ذلك تدخله في التحاور المتعثر بين معسكر الرئيس
نيكولاس مادورو وخصومه… وهو النزاع الذي يشق الدولة لشقين مما وضع ماكرون في حرج بالغ في قمة المناخ، عندما أثار الشعور بالاستياء من حديث دار بينه وبين مادورو في مصر، لما وصف نظيره الفنزويلي ب”الرئيس”، بينما لا تعترف باريس مثل عدد كبير من الدول على رأسها الولايات المتحدة، نظريا، بشرعيته على رأس الدولة، ولربما اتضح بأن اللغة الديبلوماسية لم تسعفه في الديبلوماسية‫!‬ وهو يتناقض مع نفسه ويخلق استياء عن طرف أساسي في الصراع‫.‬
وقد تدخل ماكرون في الواقع في ملف تعتبر إسبانيا أنه ملف من اختصاصها ووفرت له علاقات متعددة، وللنفط الياباني في أمريكا اللاتينية تاريخ واضح كما أن الطرفين في الصراع يرتبطان بعلاقات مع سياسيين إسبانيين من كل الآفاق والمشارب‫.‬وهذا نزوع لدى ماكرون لن يمر بدون انعكاسات.
ومن المثير أيضا أن يتابع المرء منا ما تفجر من قنابل أوربية عند ماكرون: صراع عاصف مع ألمانيا حول الغاز والمفاعلات النووية والتسليح… لم تنتزع كل قنابله، وصراع مع إيطاليا حول المهاجرين وصل حدا من التجريح في شخصه من طرف الإيطاليين وإعلامهم.. والواضح أنه يبحث عن العواصم الأوربية كل واحدة في مجال تخصصها لفتح باب المنافسة معها باسم السلام، وفي نفس الوقت، يدعو إلى إقامة “تحالفات أوربية” والتوجه نحو بريطانيا التي غادرت الاتحاد الأوربي..‫! ‬
لقد نقلت الصحافة الفرنسية أنه في أحد أيام أكتوبر نظم قصر الإيليزيه لقاء للصحافيين أسهب مستشار ماكرون في بدايته في الحديث عن “النجاحات” التي “يحققها الواحد تلو الآخر” ودعاهم إلى إبراز “دوره في السلم العالمي “، ولا شك أعطى للمستشار ما يريد لأن القصة كلها أمام الأعين المجردة هي “الانتكاسة الحادة في العلاقات الرواندية الكونغولية أو مبادرات باريس المحدودة في الحرب بين أرمينيا وأذربيدجان على الرغم من محاولات الوساطة التي لا تريدها باكو وموسكو‫…‬”، ومن المثير أيضا للاستفهام، لمن يهمه الرصد الديبلوماسي للرئيس الفرنسي، الربط بين هذا البورتريه الشخصي الذي يرسمه الرئيس لنفسه، وبين حقائق الساحل والصحراء وعملية برخان، وهي العملية التي أنهاها الأربعاء الماضي، في عملية فشل واضحة ربما سيكلف الجيش الجزائري بمتابعتها‫!‬
لا أنكر أنني ابتسمت عندما قرأت ما قاله الرئيس، وبدا لي أن تحويله الأخبار الزائفة إلى عدو استراتيجي، يشبه إلى حد كبير الفيروس الذي أصاب العسكر الشرقي في الجوار.
وخيلت لي نفسي الأمارة بالسوء أنه قد يكون أصيب بالعدوى من جراء القبلات الاستراتيجية التي قبل بها الرئيس تبون، أحد الشهود !التاريخيين في الحروب المضللة التي يقودها المغاربة ضده قاطبة!!
ولهذا وجدت نفسي الأمارة بالسوء، من المصادفات غير المفهومة ولا السعيدة، أن يرفع إيمانويل ماكرون المعركة ضد الأخبار المضللة “فايك نيوز” إلى مرتبة “الوظيفة الاستراتيجية”، أي أنها أمر حيوي للبلاد‫!!!‬
الرئيس وبكل جدية، أعاد على مسامع الفرنسيين “لطالما أكدت فرنسا على مدى سنوات أنها كانت هدفا لحملات التضليل والتلاعب بالآراء عبر شبكات التواصل الاجتماعي، التي تديرها قوى أجنبية مثل روسيا أو تركيا” ‫!!!‬
وحذر ماكرون “لن نكون متفرجين صبورين” يشهدون انتشار أخبار مضللة أو سرديات معادية لفرنسا.
والواقع أن هذه المعطيات وضعتني في صورة ما يقوم به تجاه المغرب‫!‬
فهو توجه يبدو لنا كما لو أنه لا يبحث عن وساطة ولا عن دور للسلام، بسبب الغاز الذي يخنق الأنفاس ويقلص من فرص الرؤية الواضحة. وإذا كان الغاز هو نفسه وراء تدخله في الحرب الروسية الأوكرانية وفي النزاع بين فرقاء الوضع الفنزويلي، فيبدو أنه في شمال إفريقيا تسربت مياه كثيرة في أنبوب الغاز، الذي جعله يعطل فضيلة النظر السديد‫!‬
والخلاصة أن ماكرون، الذي ضاقت به السياسة الداخلية، لم يدخل السياسة الخارجية بتصور واضح المعالم ‫(‬ والله اعلم عاودتاني‫)‬ كما يجب لرجل ورث امبراطورية من العلامات في المجال الديبلوماسي‫…‬ وفي العلاقات الدولية الودية منها وغير الودية‫..‬

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 17/11/2022