موسم الهجرة إلى الجحيم..

عبد الحميد جماهري
لا أحد كان يتوهم بأن التوسع الأممي للانفصال في السودان سينهي الجراح، إلا من كانوا يعتقدون بأن الأوطان يمكن أن تكون ملحقة للثكنات.
أما الذين أحبوا الأدب السوداني، فَقلَّما توقعوا أن تنتقل لعنة الطيب صالح من الأدب إلى السياسة..
يصير موسم الهجرة إلى الشمال، هجرة إلى الجحيم
بمساعدة… دولية تمنح نارا متعددة الأصابع..للهشيم الذي تركته دماء الخارطة المقسمة ..
هكذا نقرأ نشرة الأخبار… عن السودان..
نحن الذين آمنا طويلا بأنه ه موجود في كل مكان من الأدب…
في كل خليج وفي كل قارة:على شفاه الشخصيات السمراوات في تجارب ليلى أبو العلا ، التي حملت بلادها إلى اسكتلندا كما في أنامل محمد الفيتوري…وفي أضلاع الطيب صالح ولعنته حول الهجرة…
لا أحد سيرث ذلك السودان العميق، الذي كان يمنح الثوار العرب ماركسيتهم المنتجة، الذي نال أعضاء حزبه الشيوعي الفقيد عشرات جوائز لينين للصمود والتطلع المشترك ويمنح الاسلاميين عاقبتهم العروبية .
لا أحد سيصدق أن السودان قادر اليوم على خيال أكثر اشتعالا من خيال العسكر: تاجر إبل يتحول إلى «خليفة» مسلح وبلاد طويلة عريضة تتقزم على موائد التفاوض مع صديقه القديم وخارطة شاسعة من النيران تفتح الباب للهروب الجماعي من جنة لم تكتمل فصولها كلها..
لا أحد سينتبه إلى أن السودانيين، أمام مقترح سياسي وجغرافي يعرض عليهم موسم الهجرة إلى الخراب، ولا أحد يمكنه، اليوم، أن يتوقع انتهاء فصول المستقبل، وما سيحمله للأرض التي وعدت إفريقيا بغذائها كاملة، قبل أن تعطل الحسابات السياسية والجيوسياسية كل الموائد، إلا موائد الدم النافر…
للأديب ومحب الشعر أن يستعيد الشاعر الأفرو سوداني محمد الفيتوري في أحلامه، وهو يحمِّل القمر كل متمنيات القارة السمراء، ويضعه قبالة الشمس، ويصرخ دفاعا عن بلاده كما يدافع فارس عن جديلة طويلة تحت المطر..
لكن السودان القويم غادرت دواوين الشعر وصارت دولة كبيرة للغاية في النزاع، محاطة بسبع دول في حالة شرود كبير: إثيوبيا ومعارك الانفصال المقنعة، ارتيريا وصعوبة العيش في محيط جديد، التشاد والنيجر والمحميات فرنسا الغاضبة من عزلتها وتحولات العسكر إلى ضحية للسياسيين الفاسدين، مع نهاية الحلم الدستوري في ترتيب المستقبل، ليبيا وامتحان السلاح للسياسية وظهور الحالمين بالسلطة بعد سقوط الإمارة، مصر والتحول من ريادة السياسة إلى تدبير عالة الماء والقمح.. في الجنوب يجد السودان… جنوبه ولم يعد له!
تتربص بالسودان فكرة جهنمية لتحويل بلاد إلى ملحقات قبائلية لدول الجوار ، هذا النموذج السوداني الفظيع يعرض على إفريقيا منذ زمان طويل: كل الدول القوية جغرافيا إا تاريخيا أو سياسيا، يجب أن يوضع تحت أقدامها فتيل انفصال وصراع سلطة.
والمنطق بسيط: كل وطن يستحيل أن يفعل شيئا وهو مقطع الأوصال…
الذي نراه، بكل ألم، أن النموذج الحالي في السودان هو ما يعبر عن أفريقيا كلها التي لم تعد في حاجة الى نموذج للتراجيديا بعد أن صارت مكتفية ذاتيا من …جريمة الانتحار: الصومال، ليبيا، البحيرات الكبرى.. ودول الساحل جنوب الصحراء، وما نشاهده هو ما يحدث عندما تستجيب الضمائر المشوشة لصراع السلطة ومراكز العواصم الخارجية وتسويغ الانفصال باسم ما غير كرامة الأوطان.
ما نشهده في السودان هو النموذج الذي يراد له أن يسود في كل القارة، ما بين براثن النيران الإرهابية، والأطماع الاقتصادية وقرقعة الأسلحة في الحرب الأهلية.. لهذا يمكن أن نعود إلى عقيدة المغرب: الذي يريد أن يحمي الشمال مما تم تجريبه في الجنوب والوسط، ويحمي جنوب الحوض المتوسطي من تفاعلات الأطماع، وقد ارتدت لبوسات عديدة : الهجرة وتنظيم المليشيات السودانية حتى لا ننسى، وتقديس الانفصال والحروب، من أجل الزج بالمنطقة في النموذج الليبي أو النموذج الصومالي والنموذج الإفريقي عموما.
وعندما يصبح اللاستقرار جزءا من النظام وليس بنية طارئة، تصبح الحرب موردا اقتصاديا، والانفصال صورة شمسية عن ضباب المستقبل!
نفهم الان المجهود الجبار الذي يقوم به المغرب حتى لا يصبح الجحيم مشروعا سياسيا قابلا للتفاوض، ويصبح القتل الأخوي طريقة في بناء موازين القوى..
في الحرب يجب أن نبحث عن تلاقي النزعة الانفصالية (تأسست بها دولة معترف بها الآن)، ومصالح الدول عندما تصبح مثل الشركات المتعددة الجنسية لها نفس الفلسفة في اعتبار الحرب موردا استراتيجيا لهما معا، وإنهاء فكرة الوطن والدولة معا..
ونحن الذين آمنا بموسم الهجرة إلى الشمال، ما زلنا نحب الجنوب، نفكر بعمق في هذا المصير المؤلم الذي يتم طبخه على نيران صاخبة للقارة السمراء..
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 26/04/2023