نقاش هادئ وغير محايد تماما: الدولة البوليسية والبوليس السياسي 2/1

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
هل نعيش حقا في دولة بوليسية؟
هل يوجد أمن سياسي يجب إلغاؤه لكي يكون المغاربة في أمن وسلام؟
لابد من طرح السؤالين ومواجهتهما بما نملك من وعي مؤسساتي ومن ثقة بالذات، لا بالخجل الديموقراطي أو اليأس المقارن!
وقبل ذلك، لنضع الديكور الذي يساعد على فهم حجم التساؤل ومدى ضرورة استشعاره في الحياة العامة للبلاد، لكي نستطيع تقدير الجواب، ثم استشعار حجم ضرورته في حياتنا العامة، والديكور المعني هو كما يلي:
كل الذين دافعوا عن حياة الأستاذ المعطي منجب وعن إطلاق سراحه، من المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مرورا بالمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، للنقابة الوطنية للتعليم العالي، ووصولا للشخصيات الوطنية الحصيفة والمسؤولة، وجدوا أنفسهم موزعين بين الشعور بالارتياح والترحيب بقرار القضاء، والشعور بالحيرة والتساؤل، من التصعيد في الهجوم على الدولة وأجهزتها ونظام حكمها الذي اختاره، مباشرة بعد إطلاق سراحه.
حتى منظمة هيومن رايتس ووتش عبرت عن «ارتياحها» لإفراج السلطات المغربية عن منجب، مع التنصيص على «ضمان حقه في محاكمة عادلة» «، لا إلغاء المحاكمة أو رفضها، بدورها مراسلون بلا حدود أعربت عن «سعادتها الكبيرة» للإفراج عنه، في تدوينة على تويتر……
لكن الذي حدث أن الذي ساد بعد هذا التثمين، هو رفع السقف العدائي ضد الدولة، بإلغاء طبيعتها التي تريد بناءها وتصنيفها في ما خرجت منه منذ عقود، بفعل إرادتها وسيادتها التاريخية، بالانتقال من مرحلة إلى أخرى ، تبعا لما يريده المغاربة ونجحت في ذلك كثيرا…
لهذا يهمنا هنا القاموس السياسي الذي تم استعماله في التعليق على قرار قضائي، فهو تحدث عن »بوليس سياسي»، وترسانة مفاهيم، المتعودة من لدن بعض المعتقلين أو مناصريهم، وكان يمكن أن تسقط في رتابة الاستعمال غير المبرر أو التقادم الاصطلاحي بفعل ابتعادها عن الواقع، وعدم دقتها في وصف الحالة، ولولا أنها صارت رسمية في النقاش الوطني، وخارج الوطن، منذ أن رسَّمت وزارة الداخلية وجودها عبر بيان استنكاري لما جاء في تصريحات، طبعُها الندرة والانحسار، لكن صداها، في ما يبدو، استوجب الرد الرسمي.
فالداخلية، كما هو معلوم، لم تتأخر في الرد على تصريحات المعطي منجب..وقالت في بيانها إن «المفرج عنه أدلى» بتصريحات وادعاءات مغرضة هاجم من خلالها مؤسسات الدولة، عبر الترويج بسوء نية لمفاهيم ومصطلحات دخيلة وبعيدة كل البعد عن واقع وطبيعة عمل مؤسساتنا الوطنية، من قبيل مصطلحات -البوليس السياسي والأمن السياسي ووجود بنية سرية تهدّد سلامة المغاربة…«…».
وفي السياق ذاته تابعنا ردود فعل مؤسسات الدولة:في المقابل، تؤكد وزارة حقوق الإنسان أن اعتقاله «يندرج في إطار قضية تتعلق بقضايا الحق العام ولا علاقة له بنشاطه الحقوقي أو بطبيعة آرائه أو وجهات نظره».
وكان المجلس الأعلى للسلطة القضائية رد على منتقدي الحكم عليه في غيابه بالتأكيد على أنه استفاد «من حقه في محاكمة عادلة»، معربا عن «رفضه التام لكل المزاعم والمغالطات (…) التي تروم تسييس قضية مرتبطة بالحق العام والمس بالاحترام الواجب للقضاء».
هل في العالم دولة بوليسية تتقدم بكل مؤسساتها لتدافع عن نفسها في وجه شخص واحد، حقا؟
أبدا..وهذا يدفعنا إلى تفكير مغاير تماما:
ففي الواقع، إن السؤال يتجاوز المعطي والداخلية إلى التفكير المؤسساتي برمته، كما صغناه أعلاه، يمس كل الذين يعيشون في الدائرة الوطنية، ويلزم الديموقراطيين أكثر من غيرهم، حتى لا تذهب البلاد ضحية «خجل ديموقراطي أو ارتعاشة إيديولوجية»، ومعناه: هل يقبل المغاربة حقا أنهم يعيشون ضمن دولة بوليسية، لم يكتشف وجودها سوى واحد أو اثنين منهم؟
هل المغاربة، الذين قدموا الكثير والكثير من أجل تحرير الفضاء السياسي من أي استعمال قمعي أو استخدام باطل لوجودهم الوطني، سلموا بوجود هذا الغول الأمني السياسي، بما فيه بنية عميقة (هي التحكم تارة وهي الدولة العميقة تارات أخرى) بعد أن انتفضوا طوال نصف قرن من وجودهم وقدموا قوافل السجناء والشهداء؟
هل المغرب، الذي خرج من تجربة مرة في الماضي، إلى تجربة جريئة في طي صفحته، مع العدالة الانتقالية والإنصاف والمصالحة، قد نفض مستقبله وحاضره من هذه التجربة الرائعة، ودخل كهفا جديدا للدولة البوليسية، لا لشيء سوى نكاية في بطل يوقظه من نومه الديموقراطي المغشوش؟
كلا..طبعا..
طبعا، هذا فيه تجنٍّ على كل النواميس السياسية والحقوقية والقضائية اليومية والاستراتيجية في مغرب الملك محمد السادس..
ولا توجد، لحد الساعة، أي قوة سياسية مسؤولة ومهيكلة ومنتجة تذهب إلى هذا المنحى…
بيد أن هذا النفي المبدئي، لا يعفينا من مناقشة القاموس إياه بما يليق بنا، وببلاد تعرف ما حققته، ولا بد لها من التحدث عنه من أعلى منجزها الحقوقي، والقضائي، القابل للتقدير والتقييم ..إلخ، وبدون السقوط في شفاء الغليل، أو التفريط في الحقيقة بالإفراط في اللغة الجاحدة لواقع حي وقائم..
لقد نحتت تجارب العالم مفهوما معروفا للأمن السياسي ودراما تسجيلية للبوليس السياسي.
فإذا كانت التصريحات تعني الأمن السياسي، كما هو متعارف عليه دوليا، فليس في الأمر ما يخيفنا، نحن نشبه العالم المحتكم إلى التعريفات الدولية المتعارف عليها، والدليل أن التعريف المتداول عن الأمن السياسي هو أنه مظهر من مظاهر سيادة النظام والقانون وركيزة للأمن الإنساني، والذي يقصد به التحرر من الخوف والحاجة وضمان الحماية والتمكين من حقوق الإنسان لجميع المواطنين، في ذات الوقت، دون استثناء أو تمييز، على اعتبارها منظومة حقوقية متكاملة غير قابلة للتجزئة…، وقد أشار تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية للعام 1994م، صراحة، إلى مفهوم الأمن السياسي وعرفه على أنه: الحماية من تهديد القمع السياسي والحماية من التعرض للصراعات والحروب والهجرة… …
هل يمكن أن نجزم بأن البلاد تسير بالقمع السياسي؟
هل يمكن لأي كان، حتى من ثبت غضبه أو غله على الدولة، أن يدعي، بدون مساءلة أخلاقية لنفسه، بأن البلاد تدبّر وتسيّر وتُدار بالقمع السياسي؟
أبدا..
هل المقصود بالتصريحات، المحدودة والمجازفة، البوليس السياسي السري، كما نحتته تجارب، يحصل بأن الأغلبية من الذين يصفون الدولة المغربية به ويسمونها به، رغم زمن المصالحة وبناء جسور المستقبل، كانوا يؤمنون به إيمانا ناصعا وإيمان من ينتظر الطفرة التاريخية ليمارس هو مهام «كوميسير الشعب»، الشهيرة؟
في هذه الحالة، أمامنا تجارب ناصعة حاليا في العالم، ولنستسلم قليلا «لليأس المقارن»، ونسأل: هل البوليس السياسي، المغربي طبعا، يقف عند كل مواطن ويتابع كل مواطن ويخيف كل مواطن ومعارض وسياسي، تشتم مه رائحة الانتقاد؟
إذا كان الجواب بالإيجاب، فلماذا لم يحصل ذلك إذن عندما عبر كثيرون عن تيار معاكس للبلاد برمتها، دولة وشعبا، في قضية الكركرات، وفي قضايا أخرى ساخنة، توجت بتخوين الدولة وتخوين جزء من نخبها ؟
في دولة البوليس السياسي، لا يسمح لك يا عزيزي بأن تركب جملة واحدة، في مناهضة توجهها الرسمي، حتى ولو كانت هي… الخائنة، بالأحرى أن يكون المعني قريبا من التنكر لثوابت بلاد برمتها!
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 29/03/2021