هل هناك حياة بعد كورونا؟ -1 الجبهة الاقتصادية وتصدعاتها…

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

هي حرب، لا شك في ذلك، غير أن مفارقتها هو أن علينا أن نختبئ في بيوتنا لكي نخوضها، ونربح العدو الذي نقاتله أي أن نَجبُـنَ، لكي نكون شجعانا وننتصر.
ليس صدفة أن من يحلل ويتابع الآثار الكبرى على العالم، يقارن دوما، وبدون الخوف من اتهامه بالمبالغة، بين ما يقع وسيقع، وبين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وما جَرَّتاه على العالم من تحولات عميقة، سواء على المستوى الحميمي أو الاجتماعي أو الدولي البشري العام.
وهي حرب، ولا شك في ذلك، غير أن الذي يخبرنا كل مساء بأرقامها، ضحاياها وجرحاها، ويقرأ بياناتها والخطط الخاصة بها واستراتيجية خوضها، ليس ناطقا عسكريا ببذلته الكاكية وسحنته المقطبة الصارمة، بل هو رجل مدني، يشغل منصب مدير الأوبئة في وزارة مدنية بالرغم من وجود الجيش في المعركة.
وهذا لوحده يعطينا العنوان الأكبر لما وجب أن يكون الآن، ولما سيكون غدا. ويكشف لنا أن الذي سيصنع الأولويات، هنا وغدا، هو المعركة الصحية، أو الدولة الصحية، باعتبارها وجها من أوجه الدولة الاجتماعية…
لنطرح سؤال الغد، هل هناك حياة بعد كورونا؟
نعم، ومن الأشياء المستجدة أن الفيروس المستجد خلق خطوط قتال وجبهات عديدة في هذه الحرب…
جبهة قتال اقتصادية وجبهة قتال اجتماعية وأخرى مهنية تتعلق بالقطاع الأساسي، الذي على ضوئه ستحل الإشكالات كلها، أي الصحة، والتي تمثل اليوم ما كانت تمثله الصناعات الثقيلة في الحروب السابقة…
وهذا ما يجعل أن جزءا من الأجوبة سيظل رهينا بمدى نجاح أو فشل الحجر الصحي..
وجوابا عن السؤال أعلاه، نقول بالإيجاب، وأكيد، الحياة بعد كورونا سيعيشها من بقي على قيد الحياة، وقيد المساهمة فيها.. ستكون هي حياة المجتمع الذي عبره الفيروس، بسكاكينه ورصاصاته وغاراته القاتلة، المجتمع نفسه الذي ستغادره، آنا أو استقبالا
وهذا المجتمع، كأفراد أو كمجموعات، سيكون عليه أن يسأل نفسه، السؤال البروستي­ نسبة إلى الأديب مارسيل بروست، في روايته البحث عن الزمن الضائع­ الخالد: أين أنا؟ كمن يسأل وهو يستيقظ في مكان غريب عنه.
سيستيقظ في عالم، فيه خراب كبير لا يُرى بالعين المجردة، لا أنقاض فيه كما اعتدناها بعد الحروب التقليدية، ولا أتربة ولا انهيارات ولا آثار تدمير قابلة للتصوير والرسم، اللهم إلا مقابر الضحايا وشهداء الواجب… فقط الفراغ الاقتصادي والاجتماعي وجبهات مفتوحة..
الجبهة الاقتصادية
** بالنسبة لهذه العواقب الاقتصادية، والتي عصفت بكيانات كبيرة قبل الصغيرة واقتصاديات قوية قبل الضعيفة، لا يمكن لأي أحد اليوم، في المغرب قبل غيره، من أن يحصيها، وإن كانت عناوينها الكبرى، تنال الإجماع هناك بطالة بالآلاف ومئات الآلاف في الأفق، والاقتصاد في حالة بَياتٍ لا نعرف لِكمْ من فصل، بعد بيات ربيعي نعيشه قد يليه بيات صيفي، أو أبعد، وقطاعات كبيرة، بالرغم من أن روح الوطنية تجعلها لا تجأر بشكواها، توجد في زمن منكوب وعلى عتبات الانهيار الشامل، ولا أحد يعرف إلى أي مدى تستطيع منع نفسها عن إعلانه..
وكمثال على حجم التخوفات، اتفقت الدول العشرين على ضخ 5 آلاف مليار دولار في الاقتصاد العالمي.. درءا للعواقب والإسقاطات السلبية للفيروس .
كما أن توقعات منظمة التعاون والتنمية الأوروبية تتوقع انخفاضا سريعا في النمو الاقتصادي إلى أقل من 2 ٪، ­ في بداية الأزمة­، واليوم هناك أرقام أكثر تشاؤما بطبيعة الحال، آخرها أرقام وكالة التنقيط الدولية فيتش..
والحل أي سيناريوهات من قلب الضباب الأسود؟
كثير من المنابر والمختصين يقولون إنه متوفر على مستويات عديدة، كما نقلت ذلك صحيفة لوبوان.. العالم اليوم لا يتردد في التأميمات المؤقتة، وهو ما دافع عنه المدير السابق لصندوق النقد الدولي ووزير المالية الفرنسي ستراوس كان نفسه.. وعودة الدولة الحامية، دولة العناية المتعددة.. ولبرامج الدعم، وتعليق الكلفة المالية للخدمات الاجتماعية والضريبية والاقتطاعية…إلخ كما أن الكثير من الدوغمائيات، المسلمات الدوغمائية السياسية التي كانت غير واردة، إلى عهد قريب، أصبحت تجد لها في قلب النيوليبراليين من أمثال الأمريكيين والبريطانيين صدى، يتمظهر أساسا في الوصفة الكينيزية، مرجع الاشتراكية الديموقراطية، كالرفع من الإنفاق العمومي وجعله الكفيل بتنشيط الآلة الاقتصادية أو تكثيف الاستثمار العمومي في المستشفيات والمدارس والنقل السككي مع الدعوة إلى إعادة تصنيع البلاد من جديد.
..والواضح أن الأزمة التي ستعْقُب الفيروس، لن تجد وصفات حلول، سبق تجريبها من قبل، فنحن لا نملك كتابا فيه الأسئلة والأجوبة قبل وقوعها، وإن كان التاريخ يجيد نُصْحنا ولهذا تحاليل كثيرة، منها ما كتبها الاقتصادي الأمريكي وأستاذ بجامعة نيويورك، برانكو ميلانوفيتش، الذي يرى أن الأزمة لا يمكن فكُّها بالحلول المعتادة، أي بالحلول الماكرو­اقتصادية اعتبارا لأن هناك أواليات واضحة أزمة العرض والطلب، كما في أبجديات الاقتصاد السياسي، بحيث نجد أن المقاولات وآلة الإنتاج متوقفة بشكل شبه كلي، والإغلاق هو العنوان الكبير للإنتاج ووحداته، والعمال في بيوتهم، من جهة العرض، أما الطلب فالناس دخلوا مسكنهم، حفاظا على الأمة وبالتالي قلَّت طلباتهم، وتراجع استهلاكهم وهو ما يبطئ، على أقل تقدير، دورة الاقتصاد..
وقد كتب دومينيك ستراوس كان، يوم 5 أبريل، مقالا عن المعادلة نفسها، وقال بأننا عرفنا أزمات اقتصادية، لكن هاته لا تشبهها الا نسبيا لأنها تجمع بين صدمة العرض وصدمة الطلب في نفس الوقت..
بالنسبة للكثيرين، الحل أو جزء منه سيمر بالعودة الى الاقتصاد الطبيعي، وهو توجه ­كما يبدو بدهيا­ مضاد للعولمة.
فلا يمكن أن نتحدث، كما اعتدنا من قبل، على توزيع دولي للعمل، بل سيتعزز التوجه نحو الاكتفاء الذاتي، والمراهنة على القدرات الذاتية. مع تعليق العولمة لمدة سنة على الأقل، بمثابة بيات سنوي، قد تعتاده الشعوب والدول إذا طالت الجائحة.
ونحن قد اعتدنا نسبيا من الآن، على تعطيل حرية تنقل الأفراد والرساميل والممتلكات.. وعدنا إلى صيغة الوجود المحلي.. إذن لا يمكن أن نعول سوى على أنفسنا.. ومن هنا يبدأ التفكير في حلول غير مسبوقة إذن..
..نحن كجزء من العالم، وبقوة المبادرة نطرح الحلول، كما أنه لا يمكننا أن نتجاهل مستقبل هذه المبادرات ومدى استمرارها.
وإذا كانت الاقتصاديات القوية ذات الموارد الغنية تعاني بالشكل الذي نراه، ويتفسخ تماسك أقدمها عنفوانا فوق بساط القرن العشرين، بفعل هذه الموجة، فماذا يمكننا أن نقول عن أنفسنا؟
المغرب، اقتصاديا، دعم الأفراد والمقاولات، ومنع، إلى حد الساعة، تسريح العمال وعدم انهيار المقاولات، وضمن تمويل التكاليف الاجتماعية الملقاة على كاهل المقاولات، وتمكينها من خطوط ائتمان بنكي مضمون من طرف الدولة.
كما تم تعليق مواعيد استحقاق القروض البنكية للأفراد وتمتيع كل المغاربة المنخرطين في الضمان الاجتماعي، حتى نهاية يونيو، بما يعادل 75. من الحد الأدنى للأجور.
لكن، إذا استمر الوضع طويلا، لا قدر لله، فإن نسبة البطالة إذا ارتفعت فليس لنا ما يثبت أننا سنكون، على غرار دول أخرى، قادرين على تخفيضها في زمن معقول كسنة أو سنتين..
..أضف إلى ذك، تخوفات هي اليوم في عداد الواقع، ومنها المداخيل التي ستتأثر سلبا، والضرائب التي سترتفع، بعد رفع تعليقها وزيادة التضخم، وتدني مستوى الرفاهية بالنسبة لكل مواطن وكل مواطنة والمهن الصغرى والتجارية البسيطة ستكون منذورة للتراجع إن لم نقل للغيبوبة السريرية.
مساعدات لا يمكن أن تدوم إلى ما لا نهاية ولكنها في اللحظة الراهنة، قد تسمح للنسيج الاقتصادي أن يقلع من جديد إذا ما تم احتواء الجائحة.. وذلك مرتبط، ولا شك، بالمدة الزمنية، أي إلى أي حد يمكن للدولة وصناديق الوضع الاستثنائي تغطية الفراغ الاقتصادي وتوقف آلته؟..
وعن سؤال. هل هناك حياة بعد كورونا، هناك جواب واحد، لا يكون سوى سؤال بدوره.
على من سنُعوِّل في الما­بعد كورونا إن لم نُعوِّل على أنفسنا، سياسيا واجتماعيا؟
يتبع

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 10/04/2020