وتصيح الناس: الأسعار عار.. عار.. عار!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

أقول بصراحة أنني متوجس توجسا لا ينابيع له، من هذا الارتياح الحكومي… من الحكومة!
ومن شدة الارتياح، نشاهد الحكومة وهي تحدث نفسها عبر أغلبيتها وتصدر بلاغات تدعو فيها الى البحث في السبل الكفيلة لضمان استقرار الأسعار الطاقية.. ففي أعتى الدول المنفردة، لا تجد حكومة تقف أمام المرآة طويلا وهي تمدح وجهها وتمدح قدرتها على الصمت، وعندما يطالبها الناس بالكلام تصدر بلاغا لنفسها…في وقت تتطاير فيه الكآبات وتنتشر التقطيبات رياضةً وطنية تندلق على الطبقات كلها، من الفجر إلى الغروب، وقليلا من الليل..، فالأصل في الحكومة الصمت بخصوص الأسعار… وحين تتكلم تشكك في قدرتنا على الفهم أو البصر وتشكك في معرفتنا بالعالم. وعليه فالثلاثية الحكومية لا تبدو متوجسة مثلنا،
فهي يمكنها أن تعلن ولادة الباشلور مثلا (ولا علاقة له بالبترول في الشرق الأوسط) ويسجَّل فيه أزيد من عشرين ألف مغربي، ثم تدرك بأنه لا يليق بنا وتعلن وفاته بعد سنة واحدة فقط.
والحكومة التي «شرملت» الباشلور بلا هوادة، تعول كثيرا على بلادتنا الشعبية لكي نبتلع تفسيرها لقضية الأسعار.
لا شيء يخجلها بتاتا، وحدها تقول في نفس التصريح بأنها تبذل مجهودا كبيرا في دعم القدرة الشرائية للمواطنين، ولا تقدم أي رقم يقنعنا بأنها حريصة على جيوبنا، وفي نفس التصريح تقول بأن الأسعار مستقرة!
وتشكك في كل الصلوات والآهات الصادرة من طبقات المجتمع…
وعندما تريد بأن تعترف بأن الأسعار ارتفعت حقا تذهب إلى أقرب بورصة في العالم وتأتينا بأسعار البرميل، وتدفعنا إلى كراهية «فلاديمير بوتين» لأنه هو الذي رفع الاثمان بمحاولته تقليد صدام في الكويت… ورغبته في دخول أوكرانيا فاتحا.
الحكومة عندما كانت الأسعار منخفضة لكل برميل لم تتذكر بوتين ولا «جو بايدن»، كانت ترفع ثمن اللتر الواحد من المحروقات وتنسى العالم…
ولما زادت الأسعار تذكرت ما يحدث فيه: العالم موجود عند ارتفاع سعر البرميل الواحد من النفط لتبرير المزايدات في البوابات المغربية، ونفس العالم لا يصلح حجة في تخفيض أسعار البنزين عندنا لماَّ تنخفض أسعار البرميل الواحد من البترول.
والحال أننا في حاجة إلى تشريح واسع، فالحكومة تقوم بواجبها كاملا في تأجيج غضبنا مشكورة، وهي نفسها تريد منا بعض الغباء لكي نبتلع ما تقوله عن الأسعار… ولو كنت ساذجا قليلا لاعتبرت بأن قرار المهنيين في النقل ونقابتهم بالرفع من تكلفة النقل، قرار بالفعل غير مستقل، وأنه كان محاولة لنسف الحكومة بشل حركة النقل والرفع من تكلفتها وما سيليها من ارتفاعات أخرى في المواد الغذائية والطاقية والحيوانية…
والحكومة وسعت صدرها لكل المقترحات حتى أنها ستتجاوب مع مطالب هذه النقابات والفدرالية التي تضمها، ومع ذلك فالأسعارمستقرة، والجو صحو، والرياح هادئة، إلى قليلة الهبوب ! كما قالها رئيس الحكومة ورددها بكل ود ووفاء الناطق الرسمي باسم الحكومة…
والحكومة التي استطاعت أحزابها تعبئة موارد رهيبة أثناء الانتخابات يبدو أنها تعجز في التوازن المالي المطلوب لحماية المغاربة المستهلكين.
ولم تجد ما تقدمه من مبررات سوى أن تلمح لنا بأنها ضحية مثلنا، من تقلبات أسعار السوق الدولية وضحية جفاء السماء لأبنائها الفقراء…
هذه الحكومة سيسجل لها في التاريخ الحديث لما بعد الربيع المغربي وحكوماته، أنها وجدت دولة اجتماعية في طور النهوض، وأنها سارعت إلى دفنها في ركام من البلاغات الصادرة عقب كل اجتماع، وأنها نسبت إلى السماء وغيماتها البريئة وإلى العولمة مشاكلها التي تتناسل مدرارا مدرارا! والحكومة تصدق ببراءة الذئب أننا سنصدق أن الحرب الأوكرانية التي تم تأجيلها وأسعار النفط والجفاف، كلها بمثابة بيانات تصويب وتصحيح لأي فهم شعبوي يقودنا إلى الغضب ويجعل المغاربة يتدافعون على أبواب الفايسبوك ووراءه ويلهثون وراء كل «هاشتاغ»… يطالبها بالرحيل.
ولو كانت ملمة قليلا بمشاق الحياة اليومية للفلاح والعامل والموظف البسيط والبرجوازي الصغير والعاطل عن العمل والأرامل لكانت بادرت إلى تفعيل الإجراءات العاجلة لحل المشكلة، ويجب أن تعرف أنه ليس «بوتين» من سيسائله، بل رئيسها …هو العارف بأحوال النفط والبترول!
ورئيس الحكومة اليوم، بين يديه إحالة من طرف ملك البلاد حول سياسة مجلس المنافسة والقوانين الجديدة التي ستعمل على مراقبة الأسعار وضبطها…
هو في قلب المعادلة، كما عشناها، فهو صاحب التوزيع الأكبر للنفط والمتحكم في أسعاره، وهو رئيس الحكومة المطلوب منه معالجة ارتفاع الأسعار، والجميع يعلم أنه لم يسبق أن كان رئيس حكومة ذا علاقة مباشرة بالأسعار، حتى كريم العمراني القادم من الفوسفاط كان بيننا وبينه الخير والإحسان والتكنوقراط… ولم يكن له دخل في جيوبنا ولا في صناديق الاقتراع وصناديق البنزين، والسيد رئيس الحكومة، بعيدا عن الأصوات الداعية إلى إسقاطه بدون مؤسسات وبدون رأي سياسي وبدون تغيير الأغلبية وبدون الدخول في صراع معه على أرض الميدان الانتخابي… يفهم أن استسهال الترافع ضده لا يعني بأن مبررات ذلك منعدمة.
هوالمطالب اليوم ليقدم وصفته للخروج من الاحتقان الحالي الآن بخصوص سياسة الأسعار ومجلس المنافسة…فالموضوع مطروح للنقاش المؤسساتي منذ يوليوز 2020، منذ تأسيس اللجنة الملكية حول مراسلات المجلس السابق للمنافسة والخصومة داخله، وهي لجنة أمر بها ملك البلاد لإجراء التحقيقات الضرورية لتوضيح الوضعية وترفع للنظر السامي تقريرا مفصلا عن الموضوع…
‭ ‬وقد‭ ‬صدر‭ ‬بلاغ‭ ‬عن‭ ‬الديوان‭ ‬الملكي‭ ‬في‭ ‬مارس‭ ‬2012‭ ‬وأعلن‭ ‬تعيين‭ ‬رئيس‭ ‬جديد،‭ ‬كما‭ ‬أمر‭ ‬الملك‭ ‬بإحالة‭ ‬توصيات‭ ‬‮«‬اللجنة‭ ‬إلى‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة،‭ ‬وذلك‭ ‬بهدف‭ ‬إضفاء‭ ‬الدقة‭ ‬اللازمة‭ ‬على‭ ‬الإطار‭ ‬القانوني‭ ‬الحالي،‭ ‬وتعزيز‭ ‬حياد‭ ‬وقدرات‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدستورية،‭ ‬وترسيخ‭ ‬مكانتها‭ ‬كهيئة‭ ‬مستقلة،‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬تكريس‭ ‬الحكامة‭ ‬الجيدة،‭ ‬ودولة‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬وحماية‭ ‬المستهلك‭ … ‬المطروح‭ ‬اليوم‭ ‬بالذات‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬البلاغ‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬الديوان‭ ‬الملكي‭ ‬أي‭ ‬حماية‭ ‬المستهلك‭… ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬شهور‭ ‬مارس،‭ ‬أبريل،‭ ‬ماي،‭ ‬يونيو،‭ ‬يوليوز،‭ ‬غشت،‭ ‬شتنبر‭ ‬2021‭ ‬غير‭ ‬محسوبة‭ ‬على‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬الحالي،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬السجل‭ ‬السلبي‭ ‬لسعد‭ ‬الدين‭ ‬العثماني‭ ‬فإن‭ ‬شهور‭ ‬
أكتوبر،‭ ‬نونبر،‭ ‬دجنبر،‭ ‬يناير‭ ‬ومنتصف‭ ‬فبراير‭ ‬محسوبة‭ ‬على‭ ‬عزيز‭ ‬أخنوش،‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬يراقب‭ ‬الوضع‭ ‬من‭ ‬شرفة‭ ‬الحكومة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬ابتعد‭ ‬عن‭ ‬تدبير‭ ‬‮«‬الهولدينغ‮»‬‭ ‬المالي‭ ‬لشخصه،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬ملكه‭ ‬وضمن‭ ‬ممتلكاته،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الفرق‭ ‬الشكلاني‭ ‬في‭ ‬قضية‮«‬‭ ‬فْ‭ ‬شي‭ ‬شكل‮» ‬‭!‬
‭ ‬في‭ ‬أكتوبر‭ ‬2021‭ ‬كتب‭ ‬العبد‭ ‬الفقير‭ ‬إلى‭ ‬رحمة‭ ‬ربه‭ ‬عن‭ ‬الموضوع‭:‬أول‭ ‬ما‭ ‬يتداوله‭ ‬المغاربة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأسابيع‭ ‬بعد‭ ‬تنصيب‭ ‬الحكومة‭ ‬هو‭ ‬زيادات‭ ‬صاروخية‭ ‬في‭ ‬الأسعار‭ ‬أحدثت‭ ‬تذمّرا‭ ‬غير‭ ‬مسبوق،‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬يشيع‭ ‬أمام‭ ‬صمت‭ ‬حكومي‭ ‬غير‭ ‬مبرّر،‭ ‬طالت‭ ‬هذه‭ ‬الزيادات‭ ‬أسعار‭ ‬المحروقات،‭ ‬والتي‭ ‬يعتبر‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬أكبر‭ ‬موزّعيها‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬وسبق‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬موضوع‭ ‬مقاطعة‭ ‬شعبية‭ ‬عارمة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬مستخلصات‭ ‬أرباحه،‭ ‬هو‭ ‬وباقي‭ ‬الموزعين‭ ‬كانت‭ ‬موضوع‭ ‬لجنة‭ ‬تقصٍّ‭ ‬برلمانية،‭ ‬وموضوع‭ ‬أزمة‭ ‬داخل‭ ‬مجلس‭ ‬المنافسة،‭ ‬أدّت‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬رئيسه،‭ ‬والإغلاق‭ ‬العملي‭ ‬للملف‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬بالذات،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تتطلب‭ ‬غلافا‭ ‬ماليا‭ ‬لحلها،‭ ‬ينتظر‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬كيف‭ ‬سيتعامل‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬مع‭ ‬موضوع‭ ‬يوجد‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬صلبه‭. ‬وقد‭ ‬يعطي‭ ‬صورة‭ ‬إيجابية‭ ‬عن‭ ‬إرادته‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬التفاعل‭ ‬الإيجابي‭ ‬مع‭ ‬توصيات‭ ‬لجنة‭ ‬أنشأها‭ ‬الملك‭ ‬للنظر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬الشائك‭. ‬وقضية‭ ‬الأسعار‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬قد‭ ‬تؤزم‭ ‬السياسة،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وقادت‭ ‬إلى‭ ‬صفحة‭ ‬مؤلمة‭ ‬من‭ ‬صفحات‭ ‬سنوات‭ ‬الجمر‭ ‬والرصاص،‭ ‬بزيادات‭ ‬أقلّ‭ ‬من‭ ‬هاته‭ ‬الحالية‮»‬‭. ‬وقتها‭ ‬لم‭ ‬يرق‭ ‬كلامي‭ ‬للمقربين‭ ‬وأبناء‭ ‬الذين‭ ‬دافعوا‭ ‬عنه،‭ ‬ولن‭ ‬يروقهم‭ ‬اليوم‭ ‬لهيب‭ ‬الكلام‭ ‬نفسه‮ ‬‭! ‬
وقد‭ ‬تضاعف‭ ‬سخط‭ ‬الناس‭ ‬وهم‭ ‬يصيحون‮ ‬‭: ‬الأسعار‭ ‬عار‭ ‬عار‭ ‬عار‭… ‬كما‭ ‬صاغها‭ ‬رفيقي‭ ‬المهدي‮ ‬‭!‬

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 19/02/2022