ليلة الأستاذ محمد الدباغ..
عبد الحميد جماهري
يحرص الأستاذ محمد الدباغ على استعادة الأندلس الفردوسية، بأدق تفاصيلها، مكانا وزمانا.
بيته البديع، في طريق إيموزار بفاس الصاعقة،عتبة درج السرور على تخطيها، بقفزات محكمة الإيقاع.
في هذا البيت الكريم، الذي جمعنا ليلة الجمعة/السبت تراوحنا بين الدعة والاندهاش، متكئين على سرور متقابل مع سرور يليله، برفقة أخوة أعزاء يقودهم جواد شفيق… هناك تلك الليلة شوش التباس باهظ الجمال على الفرق بين الزمان والمكان:
هل دخلت حيزا في المكان أم فسحة في الزمان؟
هل جلست في غرفة الضيوف
أم في ساعة من الفرح؟
مثل ساعة رمل
رمل الماية بالتحديد، ليس الزمان والمكان سوى تفصيلين لروح بعيدة، دربتها أنامل العازفين على الجذل السهران…
لا داعي للتحديق بعينين دهشتين في الحدود بينهما…
كل شيء في المكان: نقوش، جدران، مشربيات
يدل على الزمان
وكل شيء في الزمان
الجلسة، الليل، ساعة موسيقى، لحظة حنين
من ميزان بسيط الحجاز الكبير
يدل على المكان.. ذاك البعيد النائم في أقراط الحمراء القرطبية..
كل شيء أيضا يصيح فيك
اِلْتهمْ هذا الليل
قطعة قطعة ً
كأنك النهار…
اِلتهمْ هذا النهار…
أنت الغرناظي الشاعر، المحب للموشحات
يأمرك المغني بأن تهدم النهار:
طف على الأكواس
واستنطق الأوتار
وانفق الأكياس
وهدم النهار..
ماسات الليل النجوم هو النهار وقد هدمته بالأكواس،
وككل الأغصان التي تتمايل في حدائق الليل المشعة
وفي قفاطين الأندلسيات الخارجات للتو من موشحات العلا..
الليل
الآلات تسبب العطش إلى الأبد، والموشح يسعف الحنين على المشي باتجاه ينابيعه في فردوس مثل جدول
في أحراش جليلة.
يا مكانُ، يامعمار باهظ الجمال تمايل بالغناء
يا زمان الوصل بالأندلس تماثل للغناء
دفعة واحدة
كأنك …..
معطف الليل.
هناك، في بيت الدباغ، حول مائدة السرور، يتحلق الأصدقاء، فتصبح الصداقة صيغة مرحة في تعبير القدر.
صداقة قدرية..تحمل لقب الأنغام …
توشحها التباسات عفوية، في تعريف الفرح
إلى منتصف الليل..
سهرنا… آه سهرنا إلى منتصف الروح في الواقع…
في نوبة من نوبات المرح، يمرق طيف عبد المعطي حجازي، الحاج عبد الكريم الرايس، حجاز بن طارق:
مرحا، وبلسان دَرِبِ مرنه على العسل
طويلا يروي أشياء أخرى
عن الشهيد عمر بن جلون
عن الأستاذ أحمد الحليمي، وعن أسماء أخرى أتى على ذكرها..
ثم في لمحة فرح، يغادر الغرفة إلى الصالون المغربي الأندلسي حيث يربت على كتف الخلود، مصحوبا بتعاليم شعراء الأندلس، والزوجة العالية التي يُطيعها الجمال والخيال والرقة يربتان معا أيضا على كتف الليل الذي يبدو طفلا مطيعا: أحْسَنْتَ يَا لَيْلُ فِي تَألُّفِنَا ..
أقول لنفسي إن هذا الليل الموسيقي جاءنا بسماء قديمة كان شعراء الآلة يحدقون فيها
ويمدحون نجومها..
هنا بأشيائه المادية
من فرش، وأزياء وكؤوس وبيارق وزليج
يحيط بنا من كل جانب
كل ما هو روحيْ..
وفي لحظة من لحظات هذا الالتباس الرفيع، كنا نجد في تثني الموسيقى على الطرب، ما أولناه أنه لحظة لنا
لحظة التئام ووئام
عندما سالت الروح في مجرى “صنعة هزج – شغل”
لِلهِ يَوْمٌ عَمَّنَا فِيهِ التَّهَانِي والسُّرُورْ
انضَمَّ فِيهِ شَمْلُنَا نِلْنَا الأمَانِي والحُبُورْ
مَعَ شَاذِنٍ حُلْوِ الثَّنَا يَسْطُو عَلَى كُلِّ البُدُورْ
بِالخَدِّ والقَدِّ القَوِيمْ والثَّغْرُ دُرٌّ فِي انتِظَامْ
وَالشَّعْرُ كالليْلِ البَهِيمْ والوَجْهُ صُبْحٌ فِي ابْتِسَامْ
كانت فرصة لنعيد تربية الذوق على إيقاعات الأندلس التي في الكمان، تتثنى مثل غصن.
الأندلس التي خرج الشعر فيها على متن … قانون أو وتر.
هنا العشق والعاشق، والقلب يصغي لخرير أنهار بعيدة، ما زالت غيما..
هنا العشق والعاشقة يتبادلان هسيس الدهشة، في ارتعاش العود والكمان..
هنا العاشق والعاشقة، خلدتها أهازيج الراح، والغناء اللطيف ومقامات الحجاز الكبير، المشرقي الصغير ومجنب الذيل…
جاء الصبح،
قال المغني بأصواته العشرة:
أسَأتَ يَا صُبْحُ فِي تَفَرُّقِنَا
بِاللَّهِ يَا صُبْحُ تُبْ وَلا تَعُدِ
وكان علينا أن نتهيأ لقسوة الافتراق عن الجنة الصغيرة، التي وهبها لنا الدباغ وليلته وعشاق وعاشقات الآلة…
وكان علينا أن نتهيأ لكي نروي ونحكي وندخل تاريخ البيت الرفيع ونودع سلالة الفرح كله والذوق كله والسمو كله…
غادرنا البيت، كشتات سعادة فريدة، نباهي أنفسنا بأننا كنا ضيوفا على خيال أندلسي لا يساور أحدا غيرنا!
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 05/11/2019