‮ ‬الإشهار‮ والسياسة‮ ‬والتسليع‮!‬

عبد الحميد جماهري

عندما‮ ‬يصبح‮ ‬الوزراء ممثلين
في‮ ‬التسويق الإشهاري‮ ‬للحكومة

 

‮ ‬‮ ‬اختار وزراء الحكومة،‮ ‬إنتاج مضامين تواصلية‮ ‬عبر الفيديوهات،‮ ‬بوصلات إشهارية،‮ ‬لتقديم الحصيلة في‮ ‬90‮ ‬دقيقة‮.‬
‮ ‬ظهر الوزراء بلباس‮ ‬يكاد‮ ‬يكون رياضيا عند البعض،‮ ‬ونصف صيفي‮ ‬بالنسبة للبعض الآخر في‮ ‬حين تحرر آخرون من ربطة العنق،‮ ‬بنفس الطريقة التي‮ ‬تحرروا بها من‮ … ‬الوضع الاعتباري‮ ‬الرسمي‮ ‬لهم‮!‬
ولعلهم في‮ ‬ذلك‮ ‬يريدون إعطاء الانطباع بأنهم متحررون من البروتوكولات المؤسساتية التي‮ ‬يفرضها المنصب الوزاري،‮ ‬وخارج التصنيف الرسمي‮ ‬للتواصل المؤسساتي‭.‬‮ ‬وقد تم تصوير‮ «‬بروفاتهم‮» ‬السياسية الإعلامية كما‮ ‬يتم تصوير أي‮ ‬برنامج ترفيهي‮ ‬أو تواصلي‮ ‬أو‮ ‬غيره‮…‬كما لو أنهم‮ ‬يريدون أن‮ ‬يراهم الناس بأنهم قوم عاديون‮! ‬وليسوا سوبرمانات،‮ ‬كما قد توحي‮ ‬بذلك مناصبهم‮!‬
‮ ‬وللحقيقة لا أعتقد بأنهم كانوا في‮ ‬حاجة إلى هكذا مجهود لكي‮ ‬يبدوا عاديين لأنهم كذلك،‮ ‬وبعضهم لا‮ ‬يُرى حتى‮..! ‬ولكن،‮ ‬مهما كانت السخرية مغرية في‮ ‬مجال التجريب الكتابي‮ ‬حول الوزراء والإشهار،‮ ‬هناك قلق‮ ‬تفرضه الجدية‮.‬
‮ ‬وهم‮ ‬يقدمون ما هو في‮ ‬تقدير مستشاريهم الإعلاميين،‮ ‬تمرينا تواصليا،‮ ‬لتقديم الحصيلة‮.‬،‮ ‬كان عليهم أن‮ ‬ينتبهوا جيدا وجديا‮. ‬‭ ‬إلى‭ ‬أن الأمر لا‮ ‬يتعلق بوصلة انتخابية تفرضها طقوس التنافس‮ ‬بين البروفايلات والأدوار‮!‬
في‮ ‬كل عملية تواصلية من هذا النوع‮ ‬يتم‮ ‬تعويض المواطن بالمتلقي،‮ ‬وتحويل المغربي‮ ‬والمغربية الذين‮ ‬يعيشون حقيقة الوضع الذي‮ ‬ينتج عن سياسة معينة إلى‮ ‬متفرجين،‮ ‬قد‮ ‬يذكرهم هذا بِوصْلات إعلانية أو كاستينغ‮ ‬سينمائي‮ ‬يتم اختبار القدرات التواصلية فيها للممثلين الرسميين‮.‬
ولعل العمل الحكومي‮ ‬قد‮ ‬يصير،‮ ‬من الآن فصاعدا،‮ ‬موضوع نقد سينمائي‮ ‬أو مقاربة في‮ ‬الميديولوجيا وعلم الوسائط،كما قد‮ ‬يكون موضوع مساءلة‭ ‬تواصلية،‮ ‬كما‮ ‬يحدث بعد كل أداء مماثل في‮ ‬الشركات العاملة في‮ ‬المجال‮. ‬ومضمر السؤال هو‮: ‬هل كان المرور ناجحا؟ هل كنت وسيم الكاميرا فوطوجينيك ؟‮..‬
‮ ‬ويكون بذلك حصل‮ ‬أول انزلاق‮ ‬غير واع ولا شك‮ : ‬يصبح المطلوب من رجل السياسة،‮ ‬وهو هنا الوزير،‮ ‬أن‮ ‬يؤدي‮ ‬دورا،‮ ‬عوض أن‮ ‬يكون همه الأساسي‮ ‬القيام بأفعال ذات جدوى تتحدث عن نفسها،‮ ‬قبل وبعد الوصلات الإشهارية‮!‬
يمكن للوزير أن تكون له مناسبات عملية ميدانية،‮ ‬تهم‮ : ‬إضرابات،‮ ‬مقاطعة،‮ ‬خطر السنة البيضاء،‮ ‬تأخير،‮ ‬هدر تعليمي‮ ‬رهيب‮ ‬غير مسبوق في‮ ‬تاريخ المغرب المعاصر،‮ ‬ولا‮ ‬يحصل فيه على أي‮ ‬نتيجة تذكر‮.. ‬لكن الفيديو الإشهاري‭ ‬‮ ‬يعطيه الشعور التام بالرضا بأنه أدى دورا جيدا‮.‬
‮ ‬كما‮ ‬يمكن‮ ‬للوزير أن‮ ‬يعمل هو نفسه على نسف دوره،‮ ‬كناطق رسمي‮ ‬باسم الحكومة له مواعيد‮ ‬أسبوعية مع الصحافة بكل أنواعها،‮ ‬وتعويضه بدور إشهاري،‮ ‬لا‮ ‬يختلف عن وصلات منذورة للتحلل في‮ ‬الزمن العادي‮ ‬والذوبان في‮ ‬صهريج التواصل اليومي‮ ‬المترامي‮ ‬الأطراف،‮ ‬وفي‮ ‬نسيج الشبكات التواصلية‮..‬
وعلى ذكر الشبكات‭ ‬التواصلية،‮ ‬لايستطيع الوزير أن‮ ‬يخلق الحدث،‮ ‬عن طريق تدوينة في‮ ‬التويتر،الإكس حاليا،‮ ‬أو في‮ ‬غيره،‮ ‬ولابد له من إخراج متكامل لكي‮ ‬يبحث عن التأثير‮..‬
الوزراء أنفسهم الذين سبق لهم أن فضلوا المؤثرين على الإعلام العمومي‮ ‬الرسمي‮ ‬وعلى القنوات المتعارف عليها،‮ ‬أقدموا،‮ ‬في‮ ‬تحول‮ ‬يثير السؤال،‮ ‬على‮ ‬العمل بنفس الوسيلة وتحولوا هم أنفسهم إلى منتجي‮ ‬مضامين‮!! ‬ولا‮ ‬يهم من‮ ‬يتولاها من الشركات في‮ ‬هذه الحالة،‮ ‬ما دام الوزير الرسمي‮ ‬يقبل بأن‮ «‬يدير شغله‮» ‬عوض التعاقد مع المؤثرين‮!‬
‮ ‬ما‮ ‬يثير الانتباه في‮ ‬مواصلة المتابعة هو أن الوزراء وضعوا لهم شعارا مقتضبا،‮ ‬يسعون من خلاله لأن‮ ‬يقدموا حصيلة سنتين ونصف في‮ ‬90‮ ‬ثانية‮! ‬
وهو رقم قياسي‮ ‬لم‮ «‬يسبقهم‮» ‬إليه أي‮ ‬أحد‮ ‬من الوزراء،‮ ‬لأن تقديم عمل‮ ‬30‮ ‬شهرا في‮ ‬تسعين ثانية،‮ ‬يطرح سؤالا جوهريا‮: ‬هل كانت الحصيلة ضعيفة للغاية حتى أنه‮ ‬يمكن تلخيصها في‮ ‬90‮ ‬ثانية،‮ ‬أم أن‮ ‬90‮ ‬ثانية هي‮ ‬مدة كافية في‮ ‬التقويم الحكومي‮ ‬لكي‮ ‬تغطي‮ ‬30‮ ‬شهرا‮. ‬أي‮ ‬900‮ ‬يوم،‮ ‬أي‮ ‬21600‮ ‬ساعة‭.‬‮ ‬وإذا اعتبرنا أن كل ساعة فيها‮ ‬60‮ ‬دقيقة،‮ ‬فإن الحصيلة هي‮ ‬129‮ ‬600‮ ‬0‮ ‬دقيقة،‮ ‬مليون‮ ‬296‮ ‬ألف‮ ‬دقيقة،‮ ‬وباعتبار كل دقيقة فيها‮ ‬60‮ ‬ثانية،‮ ‬فإن الولاية تتطلب‭ ‬‮ ‬ما‭ ‬مقداره‮ ‬77‮ ‬مليوناو‮ ‬760‮ ‬ألف ثانية‮.‬

حصيلة الحساب التقريبي للعبد الفقير لرحمة ربه، هي أن كل ثانية من ثواني التواصل الحكومي تساوي 864 ألف ثانية من العمل الحكومي!!!
يمكن لغيرنا من سادة التحليل الوسائطي أن يقنعوا الوزراء بأن الذي يسعون إليه، من منبر مازال يبحث عن شرعية الإنجاز، مأسسة التواصل الحقيقي عبر البرلمان والهيئات الأخرى الدستورية وبأن الانتقال من »التعاقد« الذي يمثل صلب السياسة وعمقها، باعتبارها عملية ناتجة عن الانتخابات ( أفضل ما صنعت البشرية في تدبير العلاقات والشرعيات والمؤسسات ) لا يمكن بأي حال أن يعوض بالتلامس أو التواصل ! الديموقراطية عملية تعاقدية وليست تواصلية بالدرجة الأولى..
ثالثا، المنزلق الذي يوحي به العمل الإشهاري، هو أن تتم مقارنته بعمليات إشهارية أخرى من مجال غير مجال العمل السياسي: أن تتحول إلحكومة إلى سلعة، وأن يصدق عليها ما يصدق على الشامبوهات مثلا: جوج في واحد، هل تظنون أنه من السهل تقليد الحكومة الخ الخ..
هناك عنصر ضمني آخر لا يقل خطورة، توحي به خرجات الوزراء الإشهارية، ومفاده أن »النجاح« الإعلامي عبر السيطرة المالية أو السياسية عليه، هو بحد ذاته شهادة للأهلية السياسية!
وفي هذا السياق، قد يقدم الوزير عملا عاديا، من قبيل إبرام اتفاقيات مع المجتمع المدني أو تقديم دعم ما للجمعيات على أنه إنتاج غير مسبوق في تاريخ المغرب الذي راكم أحسن تجربة في دائرته العربية والإسلامية في المجال.
وفي عمق الوصلات الإشهارية، التنويمية للمواطنة، والدفع- ربما عن حسن نية إذا ما استحضرنا أن العديد منهم هو نتاج عملية مماثلة في الوصول إلى القرار السياسي- نحو الاعتقاد بأن »العمل » الإصلاحي والتنفيذي وغيره قد تم .. لأننا قمنا بالإعلان عنه في كبسولات إشهارية ذات جودة عالية!!!
وتتحول الوسيلة إلى هدف سياسي بفعل هذا النموذج من الإشهار في السياسة..
ويفترض اللجوء إلى الإشهار، بطريقة غير مسوغة مؤسساتيا ولا قيميا، محاولة تحويل الفشل السياسي إلى . مجرد خطأ تقني في التواصل، أو جعل هذا الأخير سببا للأول، وربما تكون ترجمته بلغتنا الدارجة هو: » “هاد الشي لي كانديرو مزيان، لكن ما كانعرفوش نوصلوه ونتواصلوا بيه”.وقد قرأنا وسمعنا الكثير عن المعضلة التواصلية. والواضح أن حلها، في ذهن الوزراء، قد أصبح هو نفسه.. مشكلة!
يعري لجوء الوزير إلى دور الممثل والصحافي واليوتوبرز في نفس الوقت، نوعا من الحذر إزاء الإعلام (بما فيه الإعلام الذي لا يفتأ يفتح صفحاته لإنجازات الحكومة !) . وهي حيطة تعني إيعاز عدم الحديث بمدح عن الحكومة إلى سوء نية الآخرين» من قبيل: كيفاش بغيت ادير مع هاد الصحافيين«!!!
والذي نشعر به،حقا، هو أنه كلما رفعت الحكومة[ منذ تقديم الحصيلة داخل المؤسسات) من وتيرة التواصل، كلما قلَّت المعلومة: تواصل هائل، ومعلومات أقل. بسبب أنها قليلة أصلا، أو لأن المراد ليس هو مناقشتها وتبادلها، بل التوهيم بوجودها وفرض الصمت حولها بقوة الصورة . وهو منزع لطالما حلله المختصون من زاوية سعي المهمين إعلاميا إلى خلق الدولة الشاشة T?l?é – Etat
في الواقع هل كان يمكن لنا أن نخمن هذا السعي الجديد ؟
أكثرنا نباهة كان عليه أن يلتقط العناصر التالية:
إعلان رئيس الحكومة، شخصيا، عن عدم الحاجة إلى البرلمانيين والبرلمان والحديث مباشرة مع المواطنين. وإذا كان لا يمكننا بأي حال من الأحوال التشكيك في إيمانه بالنظام* السياسي المغربي، بل في إيمانه بالمؤسسات، فإن الانزلاق يصبح أخطر لأنه ورد عن .. عن رئيس حكومة بنى شرعيته على البرلمان ووجود المنتخبين. كما أن الانزلاق صعب للغاية من زاوية تجاوز المؤسسات، إلى حديث مباشر مع المواطنين عبر منصة البرلمان.
كما لو أن الحديث مع المواطنين يلغي بالضرورة المؤسسات التي تمثلهم( ولحد الساعة لم يختر المغرب الديموقراطية المباشرة، كما في الجماهيرية أو في سويسرا!)
الميل نحو شيطنة أي أسلوب تراسلي في السياسة، من خلال الهجوم على المعارضة في شخص نبيل بن عبدالله ورسالته إلى الرئيس، وخروج واحد من الوزراء الإشهاريين إلى التلاسن الافتراضي من باب .. أن الرسالة ليست دستورية والمؤسسات هي الأصل….. كما لو أن الكبسولة حلال والرسالة حرام .
في علم الميديولوجيا نتحدث عن 3 لحظات : اللحظة الشفهية اللوغسفيرlogosphere ، التي تكون فيها البلاغة الشفهية هي أداة التواصل ولحظة العلاقات المكتوبة التي يميزها الجرافو- سفير graphosphere والعلاقات الفيدسفير videosphere .. والحال أن الحكومة ترى أنه يجوز لها أن تتواصل شفهيا وبصريا، ولا يجوز للمعارضة التواصل المكتوب!!!
وكل من أرسل رسالة إلى رئيس الحكومة، يقترف شنآنا دستوريا! ولا أحد يراسل الجنرال في الحكومة، بموجب بند افتراضي في الدستور!
العنصر المقلق هو التصريح العلني بمنع أي نقاش خارج البرلمان، وكل ما على المعارضة أو بعضها هو أن تنتظر دقيقة ونصف كل عام لكي تسجل ملاحظاتها على الأداء الحكومي حتى ولو كانت تشعر بأن طريقة تدبير قضايا المجتمع من طرف الأغلبية تقودنا بعينين مفتوحتين نحو صدام مجتمعي قادم!

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 21/06/2024