السلم نعم.. لكن سياسة المسيح ليست من شيمنا!

عبد الحميد جماهري
تحل ذكرى المسيرة والمغرب يجمع بين المكاسب الميدانية والتنموية، والمكاسب الديبلوماسية المتزايدة، وفي نفس الوقت تخيم ظلال استفزازات تحريضية وإرهابية على سلوك الخصوم، وعودة »البريق لمقولة« بومدين بأن الجزائر »ستفرض سياستها في الصحراء بالقوة« من خلال تفجيرات السمارة، وتمادي الانفصاليين في المبادرة إلى »حوادث إطلاق نار« وردت في تقارير الأمم المتحدة..!
هناك الآن، كما ندرك، متغيرات وثوابت في القضية الوطنية الأولى نعرضها في ما يلي..
انقضت 48 سنة والمغرب يواجه مؤامرة تفتيته، كما مرت نفس المدة والمغرب يكرس وحدة الشعب والأرض، حول الملكية، باعتباره. ذلك هو الجواب الوطني الوحيد الذي يرد على المؤامرة. عندما انطلقت المسيرة، وكانت كل الطرق المغربية تؤدي الى عيون الصحراء، كانت استعادة التراب الوطني، وتحقيق شرط الدولة/ الأمة يتحقق بتواجد الإدارة والجيش والراية والسكان، تواجدا ماديا وليس فقط رمزيا وروحيا من خلال البيعة التي شكلت، في لحظة من لحظات تاريخ المغرب، التعبير القانوني عن السيادة.
ليس المطروح اليوم هو النقاش الفقهي الذي صاحب تلك الفترة، وإن كانت تعبيرات بعض هفواته ما زالت قائمة وتستغل من طرف خصوم المغرب في خوض حرب تأويل ضارية» لقرار محكمة العدل الدولية وتفسير مبدأ تقرير المصير..بل الذي يهم في ذكرى المسيرة، تذكيرنا ب :
– أنها تجسيد للوحدة الوطنية المستعادة التي تجمع الملك وشعبه الواحد، في الشمال وفي الجنوب وفي الشرق والغرب، الى درجة» أنها صارت تشكل إلى حدود اليوم الرمز المؤسس للوطنية الملكية
المغربية ، بلغة عبد الله العروي ، الصارم دوما في تعبيراته.
نحن لسنا بصدد الحديث عن ملكية وطنية تكرس وجهها من خلال الموقف الوطني الذي عبر عنه محمد الخامس وعائلته بالانحياز إلى الوطن وحركته من أجل الاستقلال، بل بتجديد هذه الوطنية وارتباطها بالملكية، باعتبار. الملك هو دليل الترابط بين المغرب وصحرائه، وأنه على عكس ما تم في امبراطوريات أخرى، نجد زن شخص الملك في المغرب هو دليل الوطن على وحدته!
ولهذا يمكن أن نقر مع العديد من الأبحاث السياسية والأنتروبولوجية السياسية ( انظر محمد الطوزي ) بأن المسيرة التي فتحت الطريق أمام اتفاق مدريد وبناء الجدار الأمني، تعتبر أنها عقار. بوجود حدود قارة،محددة ووجود تراب تحت السيادة مراقب مباشرة، وهي بهذا المعنى قد وضعت وتم إنجازها وتنفيذها باسم مفهوم معين امبراطورية للتراب، ونعني بذلك أن البيعة هي التعبير عن هذه الطريقة في حكم تراب ليس في حاجة إلى مراقبة وحكم إداري مباشر، بل يحكم بطريقة غير مباشرة عبر روابط بين السلطان والساكنة..
الواضح اليوم بعد كل هاته العقود، نجد أن الدولة ملأت بياضات الدولة/ الأمة بإنشاء المؤسسات وتحويل الروابط الرمزية إلى روابط إدارية ومؤسساتية مادية، وفتحت الباب نحو فكرة جديدة لتجمع بين البعد الامبراطوري و وبعد الدولة الأمة عبر الحكم الذاتي الذي يجمع بين السجلين، من حيث وجود الروابط المادية للسيادة، وفي نفس الوقت الحكم الذاتي الذي يملك نوعا من الاستقلالية عن المركز مع وجود البيعة..
– ليلة المسيرة الخضراء منذ 48 سنة، تميزت مواقف الدول المعنية، ولا سيما المغرب وإسبانيا، بمواقف متجددة وصلت الى حدود لم يكن من المنتظر وجودها.
من جهة، عبر مندوب إسبانيا في الأمم المتحدة الذي دعا عشية الانطلاق وتجاوز الحدود الوهمية، الى التخلي عن المسيرة، بعد أن كان خوان كارلوس قد توجه الى الصحراء، وتحدث من هناك عن »شرف الجيش واستحالة التخلي عن سكان الصحراء؛ »
ومن جهة ثانية: خروج الجزائر من دور النفاق إلى الإعلان الصريح عن العداء. فالمندوب الجزائري أمام مجلس الأمن قال بالحرف إن »الجزائر ستفرض سياستها في الصحراء بالقوة،« باعتبار. أن »المسيرة مبادرة منذ البداية اتسمت بصيغة العداء الواضح ضد الجزائر »كذا!!
وهنا اتضح للمغرب منذ خمسة عقود أن صفتي الدولة المعنية أو الدولة المهتمة، لا تكفيان لوصف المواقف من وحدته الترابية، بل ما هو مطروح هو أن الطرفين خصمان، وأن التعبير الأدق هو »الدولة الخصم«.
الذي جرى أن إسبانيا، كقوة استعمارية تجاوزت موقفها الأولي، وارتقت في التعامل مع الملف بما يليق »بآفاق القرن الواحد والعشرين«. ، في حين أن المواقف الجزائرية ثبت بأنها مواقف منذ الأول عدائية، وتؤكد بأن الدولة لم ترتق بعد إلى موقف مغاربي وجدي متقدم… وأهم ما يمكن استخلاصه هو أنها فكت حبل المشيمة الذي ظل يربطها بعسكر الجزائر بخصوص الموقف من الصحراء، وصار هناك بُعد ملحوظ وكبير بينهما ، وإن كانت الجزائر تريد التخفيف من الحدة بعودة السفير، وتلك حالة ديبلوماسية أخرى..
– التهديد بالسلاح، ربما عاد له بعض البريق في الآونة الأخيرة ونحن نحتفل بالذكرى، وأريد له أن يكون إثارة لحظة استقطاب إعلامي بفعل تفجيرات يتضح أن المسؤولية فيها واضحة.
ولعل أهم شيء في هذا الباب هو كون تقرير. مجلس الأمن وحيثيات القرار 2703 قد استحضروا هذا البعد التأزيمي في تحركات الأعداء، ونزوع فرض سياسة الجزائر بالقوة، والحنين إلى ذلك مجددا. وأوردت تقارير المينورسو التي أعدها الأمين العام وثمنها) مجلس الأمن في اتخاذ قراره، أنه في الفترة ما بين شتنبر2022 إلى 31 غشت 2023 أبلغ الجيش المغربي البعثة بوقوع 550 حادثا تم فيها إطلاق النار من مسافة بعيدة على الجدار الأمني 70 % منها في المحبس، ولا يمكن أن نعطي لهذا القرار كامل مداه إلا إذا وضعناه في سياق التقارير التي وصلت الى مجلس الأمن، ومنها تقارير المينورسو نفسها، باعتبارها المصدر الرئيسي، وأحيانا الأوحد لمجلس الأمن التي تلقي أضواء كاشفة على نزوعات الجزائر الدائمة.. ولعل الدعوة الى تطوير موقف الجزائر من لدن مجلس الامن هو القطع مع التفكير الحربي ، بغض الطرف عن القدرة على تنفيذ تهديداتها أم لا..
لقد ظل المغرب ثابتا في اليد الممدودة، ولم يكن ذلك تكتيكا ولا سياسة الضعيف، بل كان جزءا من إصرار العقلاء وثبات السلميين في تدبير أزمات السياسة، و معالجة قصور الوعي المغاربي في الكثير من الأحيان، وهو سيظل كذلك، لأن إيمانه العميق يمنعه من أن ينجر إلى سواه، غير أن السلوكات الهوجاء قد تفترض مقاربة أخرى لردع المغامرين، ونحن نعيد النداء الوطني الذي أطلقناه منذ انطلاق المسيرة، والذي عبر عنه الملك الراحل بأن الجيش المغربي سيتصدى لأي تدخل لحماية المسيرة، والمسيرة ما زالت مستمرة في الصحراء..
– المغرب منذ البداية يرفض سياسة النعامة كما يرفض سلوك المسيح، من لطمك على خدك الأيمن، أدر له الأيسر أو العكس، ولا يريد أن يخفي عن نفسه التهديدات التي يمليها الموقف الحربي لأطراف الخصم ..ويتحدد موقفه من الصحراء بدرجة الاقتراب من احترام سيادته أو الابتعاد عندها. أما عندما يرقى ذلك إلى التهديد، فقد كانت الطاقات التحريرية الشعبية سندا قويا للطاقات العسكرية النظامية في هذه المسيرة الطويلة من مواجهة المؤامرة. ولعل الخروج الكبير في العيون لا يمكنه أن يتم بدون فهم رسالة المواطنين الذين يدركون معنى الاستهداف والقتل للمواطنين المسالمين.
وفي هذا المعنى، فقد كان المغرب قويا بسنده الشعبي أكثر من السند الديبلوماسي عند اندلاع المواجهات المفروضة عليه، وكان الخصم في موقف متقدم من حيث الدينامية العدوانية، ومن حيث الاحتضان الدولي بسبب الحرب الباردةوبسبب الاصطفافات الدولية والعكس هو الصحيح الآن، عكس لصالح المغرب.
وإذا كانت عقيدة المغرب السلمية عقيدة ثابتة، فإن السلم يحتاج الى مدافعين شرسين عنه، لا سيما السلم الذي يعني وحدة البلاد واسترجاع الأراضي المغتصبة.. و اليوم نجد أن دولا أوربية كثيرة (14) تعتبر الحكم الذاتي هو المقترح الذي يقدم الحل، والاعترافات تتوالى، والمعايير التي قدمها المغرب (مصفوفة النظارات)( صارت من معايير التعامل الدولي مع المغرب، وهو منحى سيتكثر ولا شك، وهو يقوي من حظوظ المغرب في الدفاع عن نفسه أمام الشياطين الحربية التي تحركها الأطراف الخصم في المنطقة.
– تعزيز العمق التاريخي من خلال سياسة ملموسة، أصبح حالة صحراوية مغربية قائمة. بل يمكن القول إن الصحراء، الحلقة التاريخية بين مركز السلطة في المغرب عبر القرون، وبين القارة، تجددت بقوة من خلال مشروع أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب، ومذكرة التفاهم الموقعة مؤخرا، بالرباط، مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وفي نواكشوط مع موريتانيا والسنغال، وغيرهما من المشاريع المهيكلة.
لا شئ يجب أن يوقف هذه الدينامية، ولاشيء يجب أن يشوش عليها أو يمنع المغرب من الدفاع عنها بكل الوسائل المشروعة.
إن هدف الخصوم لا يقف عند تعميم الفوضى داخل التراب المسترجع، بل أيضا التشويش على دوره كمنطقة مركزية، جغرافيا وسياسيا، لتنويع الروابط مع القارة الأم!
– تضحيات كثيرة قدمها المغرب من أجل وحدته، ومن مكاسبه تحديد الهوية الكفاحية لشعبنا، مما جعل استرجاع الصحراء استقلالا ثانيا ومناسبة لصناعةالتاريخ مجددا، والانتقال في سلم القوة الإقليمية والقارية.. ولأجل ذلك، لا يمكن أن يوقفنا أحد في هذا الطريق، كما أن التهديدات التي دخلت منطقة التساؤل عن أهدافها، لا يمكن استصغارها). وهذا هو المطلوب: الجمع بين تكريس مكاسب التحرير وأيضا استحضار تضحياته:هناك من يعتبر التعبير عن التفاوض والديبلوماسية تعبيرا عن التردد أو عن احتمال تقديم التنازلات، وهو أمر سبق للملك أن حسمه بأنه لا تفاوض إلا تحت راية السيادة، وأن ذلك ليس بابا للتنازلات، كما أن الالتزام بالسلام لا يعني رغبة مغلفة في الاستسلام ولا حالة ضعف« سلمي» مزمنة ! هو عمق قول الملك في الدورة 46 «إن “المغرب لا يتفاوض على صحرائه. ومغربية الصحراء لم تكن يوما، ولن تكون أبدا مطروحة فوق طاولة المفاوضات”.» ،في اللقاء ذاته، فالمغرب لن يتعايش مع «الاستفزازات» كما حدث في الكركرات، وكما وقع في غرب الجدار. قد يحصل على شرقه.
الكركرات هي الحل، بحيث أن المغرب سيكون في موقف سليم وهو يدخل، سلميا، لاستعادة ترابه. فهو لم يسلم جزءا من ترابه لإقامة دولة أو إقامة منصات لتقصف وتقتل) أبناء شعبه، بل لبناء السلام وإذا تعذر ذلك، فمن حقه أن يغلق الباب الذي تأتيه منه الحرب كما هو حال الكركرات! وإما عليه أن يساعد العالم على الاتجاه نحو إقرار جماعي بحقوقه..
لقد شهدت المينورسو بما رأت وعانت مما عانى غيرها. وهي اليوم حجة على الخصوم ولنا موعد آخر ولا شك ربما لا يتوقعه أحد!
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 06/11/2023