أذكر أنني لم أوجد قبل الخيال، في كتاب!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

اختيار اليوم العالمِي لِلكتاب في 23 أبرِيل من كل سنة، تأسس على مراوحة رمزية بين الموت والحياة:موت الكاتب وحياة الكتاب.
ويشاء التاريخ الرمزي لهذا الاختيار، أن يُوافقَ التوقيتُ ذكرى وفاة عدد من الأدباء العالميين، أمثال وليام شكسبير، غارثيلاسو دي لا فيغا، وميغيل دي سيربانتس.
إن الرمزي يقول بأنه يبقى خالدا بعد موت المادي، بشريا كان أو حضارةً.
هكذا مات ويليم شكسبير، وبقي عُطيل
ومات دي لا فيغا وبقي جنون الحب
ورحل سربانتيس وبقي دون كيخوطي..
ليس لنا، في غرور جيلنا، كل هذا الخلود.
لنا، في محاكاتنا للأبدية ما كانه الطفل والطفولة، كإرث جيد للكتاب.
فكلما عدت إلى الطفولة أجد أنني بدأت .. من حيث بدأ الكتاب في حياتي.
فأنا لم أوجد قبل الكتاب، كصيغة مادية عن الأفكار والمعارف والمشاعر.
فأنا سليل عائلة عاشت بالقرب من الكتاب المقدس، وفي خدمته:الجد المؤذن والعم السادن والخال الإمام .. وشعوب العائلة التي تقودها كلمات لله الصافية إلى السكن بالقرب من المسجد.
في المسجد الكبير، باولاد عمارة، الساهر قرب كتاب كبير اسمه التاريخ، كان الخال »لفقيه ابن عمارة«، (وهو، في حقيقة الأنساب خال الوالدة يناديه الجميع »يا خال«)، هو أول من شغلني قبل دخول المدرسة، ووضعني بالقرب من كتبه في الحديث ونسخ عديدة من القرآن الكريم، وما زال ذلك الدكان يبدو لي مثل رواق من أروقة الجنة..
كُتبٌ، كُتبٌ ثم كُتبْ، وملح وسكر وشمع وزيوت، وهو قابع بينها يحرس الغيب الرباني في النوازل والحكم، ويحرس في الوقت ذاته شهوة الطفل الصغير إذ يقضم بملء أسنانه »بسكويتا/الباسطا» طائشا أو يتصفح دفوف الكتاب مثل دفتي باب في الكنوز!
لقد فشلت العائلة، لا سيما جدي لأمي المقيم في «قوبيين» في إقناعي بالتضحية باللعب لأجل دخول المسيد (يا أهل «مزكيتام» تعالوا)، ولكن دكان الخال كان يملك السحر كله، الذي يجعلني بمخيلة الطفل أعثر على العلاقات اللدودة بين الأشياء، كتاب سكر وكتاب ملح.
لقد كانت اللوحة، اللوح ما قبل العصر الطباشيري، واضحة للغاية لهذا لم تغر خيال طفل، وأنا كنت أبحث عن السر الغامق في الحرف الليلكي للمخطوطات.
بعد هذا كنت أجوب غرفة العم العليا في دار العائلة، هناك أتسلل كما لو أنني أبحث عن مقابل عاطفي وحبي للبسكويت، في تلك الأوراق الطلاسمية، المعلقة مثل أجراس على الجدار:تراني فكرت فيها كأنها خارطة كنز..؟
تراني لم أفكر تماما في كنز آخر غيرها،
لاشيء يعلق بي الآن يفيد بأنني كنت قرصانا يجهل ميولاته في الحياة ……القادمة!
أنا أيضا سليل الخيال المعلق بلسان جدتي، «حمُّوية»: هناك بدأ كتاب لم أكن أقرأه لكنه كان يقرأ أقداري القادمة:
بتجاعيدها وبالوشم الذي يحيط بها كنحت هيروغليفي غامض من الشفة إلى أن يغيب في الجسد..
وارتبطت تجاعيدها باللغة عندي:كلما فكرت في كائناتها الخرافية رأيت التجاعيد ولهذا ربما أصل دوما إلى الخيال… شيخا.
ولهذا ربما لا أذكر طفولة لخيالي..
وأكاد أحسم أمري:من لم يستمع إلى حكايات الجدة، ذهب يبحث عن الخيال في المخدرات والعشب والإيديولوجيا..أو صنع أسطورة شخصية وسماها قصيدة..
في شفاهها تتوالى الصفحات
وفي قصص الخرافات التي تجيدها الجدة كان الخيال يتبرعم مثل شجر اللوز في السفح أمام البيت..
كانت تخبز بيدين من السرد خبزة خيالي!
كنت أقرأ شفتيها، ورقة ورقة
(وأسمع الجد ، نبيا نبيا..
آااه جدي، كان يخيل إلي أن الأنبياء أصدقاؤه)
ولهذا أعترف بأن كل كتاب يحمل فم.. جدتي!
وقبلتها التي تضعها، عندما تكون غير غاضبة من الزمن ورحيل كل أهلها، على خد حفيدها الذي يجيد الإنصات وإن كان ينام دوما قبل النهاية…
ولهذا أحب الكتب..
ولهذا أيضا يحدث أحيانا، مجاملة مني للكتاب، أن أغفر له أخطاء كاتبه، أو آتيه وقد وضعت كل مجساتي النقدية في الدولاب!
أغرس شجرة في كتاب، كما يريد الخيال الشعري، وأنظر للسلالات تتناسل
صورة صورة.
وأنظر للحدائق تونع بين دفتيه!
الآن صار الكتاب موزعا على جهات العقل الإنساني الأربعة: كتاب/ هاتف، وكتاب/ حاسوب، كتاب /شاشة وكتاب سكوت!
ويغيب الورق، سليل الشجرة، رويدا رويدا
وتضيع معه حاسة رائعة اسمها اللمس
لمس الكتابة بأنامل الفضول!
ننزوي الآن في فصل من فصول البشرية، نبحث لها عن طفولتها:عن عُقدها الأولى : أين إلكترا، وأين أوديب، أين بروميتيوس وأين النسر الذي يأكل الكبد؟

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 27/04/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *