إنجاز حكومي: نزع الطابع المؤسساتي عن المؤسسات!!

عبد الحميد جماهري

نجحت الحكومة، وأغلبيتها المستقوية بالنتائج الانتخابية.. في ترسيخ ما تسميه الانتروبولوجيا السياسية ( نظرة لا مؤسساتية للمؤسسات)، وقد يطول بنا الحديث في تفسير ذلك، في حين أن المشاهد السياسية داخل مؤسسات البلاد قد تعفينا من الجانب النظري البحث.
آخر نماذج توظيف هاته النظرة الحكومية ضد المؤسسات الأخرى تتجلى في ما يقع في مجلس المنافسة.
وكانت قبل ذلك قد خاضت معارك بخصوص المؤسسات المسماة حكامة.
وفي الواقع، كان من الممكن أن تجد لها أنصارا من خارج أغلبيتها، لو وضعت الأمور من حيث التعيينات وقانونها الذي نوقش، أو طرحتها من حيث توسيع وعاء الملكية البرلمانية، كما وردت في الدستور، بل كان من الممكن أن تنشط الحياة السياسية الوطنية لو وضعت المعادلة بمسمياتها الحقيقية، عوض الاكتفاء بالهجوم على من يرأسها، أو التشكيك في مهامها العادية.
فقد تعدى الهجوم والتشكيك في نوايا القائمين عليها، إلى التشكيك في أرقامها والهدف منها، ثم استكبرت عليها القيام بمهام معارضة أرقامها لأرقام رئيس الحكومة، في لحظات ذات طابع مؤسساتي( تقديم حصيلة نصف الولاية مثلا ) أرادت تعطيله حتى تقوم الحكومة بأدائها أمام البرلمان!
ففي حالة مجلس المنافسة، بدون العودة إلى انفجار القضية وما تراكم منها في نهاية ولاية سعد الدين العثماني، وإعفاء إدريس الكراوي، ثم المعالجة المتبناة مع مجيء رئيس الحكومة الحالي، بدون كل هذا المسار، نرى أن نتيجة عمل المجلس أقل بكثير من الوضع الحقيقي الذي توجد فيه معادلة المحروقات.
فلم تعد تقاريره حدثا سياسيا ولا اقتصاديا ولا مؤسساتيا.. ولا أصبحت تكشف الطريق إلى حماية أخلاق المنافسة، التي تساوي في التكييف الاقتصادي ما توازيه الانتخابات في الديموقراطية.
لم يسقط مجلس المنافسة أي شركة في شراك العقاب، وكل ما هناك هو تكييف دوره لكي يكون «مجلسا للمخالفات»..لقد كرس ما كانت الخصومات المغربية بين القوي والضعيف تحسبه في عبارة: «ديتك في جيبي..»! أي أن المال موجود للدفع بدون تغيير ميزان المعادلة من أصله!
كان نفس المنزع إزاء مجلس الحسابات ثم مندوبية الإحصاء ثم مؤسسة محاربة الفساد.. وكل مؤسسة ذات دور في تخليق الحياة العامة أو الحكامة أو ذات منزع مشابه، تسعى الحكومة إلى تعطيل دورها المؤسساتي والسعي إلى نزع الطابع المؤسساتي عنها.
أحيانا يتم ذلك بـ»تذويت» القضية ( أي تحويلها إلى قضية «ذوات» تتحكم في هاته المؤسسات)، وأحيانا أخرى تكون بتعطيل أدوارها وتحويلها إلى مؤسسة تابعة.
ولعل أبرز مؤسسة تعاني من آثار هاته الشرطية السياسية هي، ولا شك، البرلمان، وفيه يتضح أن المؤسسة التي أصبحت مركزية في النظام الدستوري المغربي منذ ثورة 9 مارس وما تلاها من نص دستوري.. لم تعد لها السلطة المفروضة فيها للأسف، ولا أصبح البرلمان، حاجة ديموقراطية وفضاء للنقاش التعددي وساحة التصليب المؤسساتي في السلوك السياسي للبلاد، بقدر ما اتضح أن المهم فيه هو الكيفية التي نرتب بها السلطة، وكيف تنتظم فيها شبكاتها، وكيف تعمل مراكز النفوذ فيها بدون خجل ديموقراطي (قضية سحب قانون الإثراء اللامشروع كفضيحة تنسف دور البرلمان !). يضاف إلى ذلك طريقة تشكيلها من قوة مركزية تعطي للمال دور الحسم، وتنصب البارونات فيه كأعلام ديموقراطيين …… إلى حين يتم جرهم إلى القضاء والسجن قبل وبعد!
وقد اشتكت المعارضة، في شخص المعارضة الاتحادية، من العديد من مظاهر نزع الطابع المؤسساتي عن البرلمان واستصغار دوره وتحويله إلى آلية للتصويت على قرارات الأغلبية … والمنابزات الما تحت سياسية!
وتم الحديث عن الموضوع من زاوية اختلال التوازن المؤسساتي بشكل لا يفهم حقا في نظام سياسي جعل البرلمان في‮ ‬صلبه، حتى صار هذا الاختلال هو عنوان التوتر الحاصل دستوريا في‮ ‬البلاد‮.‬
قد يقول قائل بأن التصور الذي ينزع الطابع المؤسساتي عن المؤسسات الديموقراطية( أو النظرة اللا مؤسساتية للمؤسسات) هو نتيجة منطقية لاعتماد مفهوم التسويق السياسي أو التدبير المقاولاتي للسياسة .. management..
والحال أن ادعاء من هذا القبيل يجب أن يكون مرحلة متقدمة ما بعد الإفراط المؤسساتي، بلغة أخرى يجب أن تكون المؤسسات قد قامت بدورها كاملا، ولقيت أدوارها الاحتضان السياسي الكامل، وظهر بأن هناك فراغات تستوجب مقَبِّلات تكميلية، أما وأن الهندسة المؤسساتية لم تستكمل كل أضلاعها، فإن هذا المنزع الحكومي لا يعني سوى تفقير الحياة المؤسساتية التي نطمح إليها، والتي وحدها تجعل ربط المسؤولية بالمحاسبة ممكنا!
هذا المسعى يكشف، في الواقع، تقلص حضور القناعات الفكرية في الحقل العام، والدليل في ذلك هو أن الليبرالية التي كانت غاية وجود سياسي لدى بعض الأحزاب تحولت من تيار فكري متعارف عليه إلى….. تكنولوجيا للسلطة، يلعب فيها المال الدور الأبرز، وتصبح مؤسسات الدولة (بما فيها الدولة الاجتماعية ) مجرد أدوات فعل حكومي هدفه الانتخابات والهيمنة عليها! ومما يسهل انتقال الفاعل الحكومي إلى…. استعمال المؤسسات كلها في أغراض خاصة!

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 27/01/2025