إيران وحدود اللاهوت الدستوري‮ ‬في‮ ‬المصالحة مع المغرب

عبد الحميد جماهري

معنيون في‮ ‬المغرب بتطورات الوضع السياسي‮ ‬في‮ ‬إيران،‮ ‬وكذلك بتقلّباته ‬ما بين المُتشدّدين والإصلاحيين، ‬وتوازناته بين الأيديولوجيا والسياسة، بحسب موازين القوّة‮. ولعلّ ما‮ ‬يُحدّد الموقف المغربي،‮ ‬شعبياً ورسمياً، ليس مدى نجاح الإصلاحيين في‮ ‬تغيير منظومة الحكم والسماح بالحرّيات‮ ‬والحقوق،‮ ‬وقدرة الشعب على التعبير ‬عن نفسه،‮ ‬فقط، بل ما لذلك من‮ ‬تأثير‮ في توجّهات الديبلوماسية الإيرانية في‮ ‬القضايا المصيرية للشعب المغربي‮ ‬وقضاياه الحيوية،‮ ‬وفي‮ ‬قلبها الصحراء‮.
‮‬في‮ ‬المُسلّمات الأولى، تعهّد‮ ‬الرئيس الإيراني المنتخب، مسعود بزشكيان، برفع القيود عن الإنترنت،‮ ‬ولم‮ ‬يُخفِ معارضته‮ ‬المُطلقة‮ ‬دوريات شرطة الأخلاق المُكلّفة بالتثبت من تقيّد النساء بإلزامية الحجاب،‮ ‬على طريقة‮ «‬المطاوعة» ‬سابقاً في السعودية.‬ تبنّى الرئيس المُصنَّف إصلاحيّاً ‬غير قليل من حقوق الإنسان ‬المُتعارف عليها عالمياً، ومنها تمثيل في أوسع نطاق للنساء وللأقلّيات الدينية والإثنية، خصوصاً الأكراد والبلوش‮. ‬وهو ما قد‮ ‬يجعله‮ ‬يتقاسم قسطاً‮ ‬غير‮ ‬يسير من القاموس السياسي‮ ‬عالمياً مع المغرب، الذي‮ ‬يجعل منه أيضاً بلاغةً ديبلوماسيةً وسياسيةً في‮ ‬تحديد موقعه عالمياً‮.‬
‮تاريخياً، تكون الفترات الأكثر حدوداً بين الرباط وطهران هي‮ ‬اللحظات التي‮ ‬يصل فيها الإصلاحيون إلى‮ ‬الحكم،‮ ‬كما كان الأمر مع الرئيس الأسبق محمد خاتمي،‮ ‬الذي ‬قاده التيّار الإصلاحي‮ إلى الرئاسة‮. وقد تابعت النُخْبَة المغربية الانتخابات التي‮ أوصلت الإصلاحي‮ ‬مسعود بزشكيان إلى‮ ‬سُدّة‮ ‬الرئاسة،‮ ‬باعتبارها ثاني‮ ‬أرفع منصب في‮ ‬الجمهورية الإسلامية،‮ ‬ومن‮ ‬يشغل كُرسيّها‮ ‬يصبح‮ ‬مُؤثّراً في‮ ‬السياستين الداخلية والخارجية،‮ ‬في‮ ‬وقتٍ تعرف العلاقات بين البلدين (إيران والمغرب) قطيعةً تامة،‮ ‬حدثت على أثر تحرّكات إيرانية مناهضة للمغرب‮.
ومن هذا الجانب،‮ ‬نُذكّر بأنّ السبب المباشر لقطع العلاقات كان ما توفّر للمغرب من حُجج ووثائق ودلائل عن تورّط سفارة إيران في‮ ‬الجارة الشرقية للمغرب،‮ ‬ومدّ الجبهة الانفصالية (بوليساريو) بالأسلحة المُتطوّرة، وتأكيد الديبلوماسية المغربية أنّ‮ قادةً في‮ ‬حزب لله، أبرزهم‮ ‬المسؤول عن العمليات الخارجية في‮ ‬الحزب، و‬المستشار العسكري‮ ‬في‮ ‬التنظيم نفسه،‮ ‬والمسؤول عن التكوين العسكري‮ ‬واللوجستي،‮ «‬تنقّلوا في‮ ‬مناسبات عدّة إلى تندوف منذ مارس‮ ‬2017 ‬من أجل لقاء المسؤولين في‮ ‬البوليساريو،‮ ‬والإشراف على دورات تدريبية‮». ‬وممّا زاد التوتّر التصريحاتُ التي‮ ‬أطلقتها قيادة «بوليساريو» بحصولها على المسيّرات الإيرانية المُتطوّرة،‮ ‬وتهديدها باستعمالها ضدّ المغرب‮. ‬وقد تزامن الجدل بشأن الموضوع مع مناقشة قضية الصحراء أمام مجلس الأمن في‮ أكتوبر ‮ 2202،‮ ‬ما ‬دفع السفير المغربي‮ ‬لدى الأمم المتّحدة،‮ ‬عمر هلال،‮ إلى تأكيد ذلك تحت القُبَّة الأممية‬،‮ فذكر‮ ‬امتلاك جبهة‮ بوليساريو‮ ‬مُسيّرات إيرانية الصنع، وتدريب عناصر الجبهة على‮ ‬يد قوّات إيرانية، وأخرى تابعة لحزب لله. ‬وممّا زاد من تزكية التصريحات‮ ‬المغربية ما جاء على لسان‮ ‬عضو الأمانة العامة للجبهة الانفصالية،‮ ‬عمر منصور،‮ حين قال، خلال زيارته في سبتمبر 2202 لموريتانيا، إنّ «بوليساريو ‬تعتزم استعمال طائرات مُسيّرة مُسلّحة ضدّ الجيش المغربي‮ ‬المرابط على طول الجدار الأمني». ‬
‮‬ولعلّ القراءة التي‮ ‬يمكن من خلالها تحليل‮ ‬تطوّرات الموضوع بالنسبة إلى المغرب،‮ ‬في‮ ‬قضية مصيرية هي‮ ‬قضية الصحراء،‮ ‬بناء على ما سبق‬،‮ ‬هي الإجابة عن ‬السؤال المركزي‮: ‬إلى أيّ‮ ‬حدّ‮ ‬يكون الإصلاح نهجاً في‮ ‬عقلنة التوجهات الديبلوماسية لطهران،‮ ‬وتهدئة طموحاتها ‬التي‮ ‬تبنيها في‮ ‬حالة المغرب، على التشويش على وحدته الترابية‮. ‬والعودة إلى عقلانية محمد خاتمي؟‮… ‮‬في‮ نازلةٍ أخرى،‮ ‬عللت إيران قطع المغرب علاقته معها‮ ‬بوجود‮ ‬توجّه سعودي‮ ‬أمريكي‮ ‬تحريضيّ‮ ‬ضدّها، في‮ ‬محاولة لتبرئة نفسها، وربط قرار الرباط بتحالفاته العربية والدولية.‮ ‬وبالرغم من تشديد المغرب على‮ ‬سياديّة قراره،‮ ‬يبدو من المُفيد حالياً أن يُطرح السؤال بشقَّين. الأول، ‬بعد أن جرى تطبيع العلاقات مع السعودية،‮ ‬ما الذي‮ ‬يجعل إيران تتشبث بموقفها إزاء‮ ‬المغرب؟ والثاني، إذا كانت أمريكا‮ ‬في‮ ‬تقدير طهران من الدول التي‮ ‬دفعت باتجاه العلاقات المتوتّرة‮ ‬الحالية، إلى أيّ‮ ‬حدّ تبقى المعادلة قائمة وإيران تطلب المصالحة مع واشنطن، وإعادة تقدير العلاقات في‮ ‬أفق تطبيعها؟…

سيكون الانتظار سيّد الموقف ‬في‮ ‬الفترات المقبلة،‮ ‬وإلى حين تنجلي‮ ‬المواقف والمواقع‮ ‬يبقى الوضع المؤسّساتي‮ ‬حاسماً إلى حدّ ما،‮ ‬وهو المُتعلّق بما‮ ‬يمكن تسميته سقف‮ «‬اللاهوت الدستوري» ‬في‮ ‬تحديد إمكانية تحقيق السقف المُعلن‮ ‬لطموحات الرئيس‮ (‬المقصود باللاهوت الدستوري‮ ‬هنا، المعنى الذي‮ ‬أعطاه إياه الفرنسي‮ ‬أوليفييه روا‮، ‬أي‮ ‬سلطة دينية توجّه مؤسّسات‮ ‬الدولة،‮ ‬وتهيمن عليها، وتضع لها سقفاً زجاجياً‮ ‬لا‮ ‬يمكن تخطّيه،‮ ‬باعتماد الديمقراطية التمثيلية وسيلةً للوصل إلى ذلك‮).‬
‮ونضيف، تتمثل طموحات الرئيس الجديد، كما هو معروف، في علاقات بنّاءة‮ ‬مع واشنطن والدول الأوروبية، وإخراج إيران من عزلتها، وإحياء الاتفاق المبرم في‮ ‬العام‮ 2015 ‬بشأن البرنامج النووي‮ ‬الإيراني‮ ‬مع القوى الدولية‮. ‬والحال أنّ صلاحياته تكاد تكون معدومة في‮ ‬ما‮ ‬يخصّ الجيش، والحرس الثوري‮ ‬للجمهورية الإسلامية، ‬باعتباره الجيش الأيديولوجي‮ ‬للنظام‮، وهو المُتّهم هنا في‮ ‬قضية العلاقات المغربية الإيرانية‮. ‬وهو ما‮ ‬يُفسّر كذلك عجز الديبلوماسية الإيرانية،‮ رغم قدرة الرئيس على التأثير فيها،‮ ‬عن التجاوب مع خطوات المغرب،‮ ‬قبل قطعه علاقاته معها‮. ‬ومن مستلزمات تنفيذ الخطّة الجديدة للرئيس الإصلاحي،‮ تراجع نفوذ الحرس الثوري‮ ‬في‮ ‬تصدير الثورة الإيرانية، وتغيير عقيدة البلاد الديبلوماسية‮ ‬في‮ ‬تدبير‮ ‬الجوار القريب والبعيد،‮ ‬القائم على زرع بؤر التفكّك‮ (‬كما هي‮ ‬حالة العراق واليمن وسورية، وجزء من لبنان القتيل‮). ‬وهو هدف رهين بموازين القوى الداخلية،‮ ‬وهو ما لم‮ ‬يُعطِ‮ ‬تقدّماً كبيراً للرئيس (حصل بزشكيان على 6.35% من الأصوات فيما حصل منافسه على 3.44 بحسب النتائج النهائية التي أعلنتها السلطات الانتخابية).

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 11/07/2024