الأغلبية في المغرب والحكم بأقلّ كلفة

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

إذا كان للمغرب اليوم، في عزّ التصاعد المهول للأسعار، مع  ما يرافقه من انغماس جماعي في أجواء كروية، من «نموذج مثالي» طارئ في التفكير، فلا شك أنه مدرّب الفريق الوطني لكرة القدم، وليد الركراكي، فقد تزامنت المباراة القوية التي لعبها الفريق المغربي، الخارج بهالة نصر وتقديس من مونديال قطر 2022، ضد نظيره البرازيلي يوم السبت الماضي، مع الارتفاع غير المسيطر عليه  في أسعار المواد الغذائية في شهر رمضان الفضيل. وقد بدا أن المقارنة مغرية كثيرا بين أداءي الفريقين الرياضي والحكومي.
قد تكون هذه من الإسقاطات السريعة للتفكير عبر «واتساب» و«فيسبوك» وباقي الوسائط الاجتماعية، كما قد تكون صورة مصغّرة لما يسمّيه أهل الاجتماع والسياسة، المعجبون بتفكير العالم ماكس فيبر «التفكير بالنموذج المثالي»، كما يمثله رفاق حكيم زياش وأشرف حكيمي. وقد يكون لهذا المفهوم الذي يعدّ بمثابة وحدة تحليل وتفكير ونقد الفواعل الاجتماعية إغراؤه في لحظةٍ موسومةٍ بالاحتجاج، مقابل أخرى موسومةٍ بالرضا التام، هي من حظ  الفريق الرياضي.
وإذا كان من المبالغ فيه مجاراة «الفيسبوكيين» و»الفيسبوكيات» في الأمر، فإنه مع ذلك لا يخلو من جدوى «علمية» وأخرى تواصلية، باعتبار أن «فيسبوك» لطالما شكّل منصّةً لتقديم عروضٍ سياسية، بعضها قويّ كما حدث في الربيع المغربي في فبراير/ شباط 2011 ، قاد إلى تعديل دستوري عميق، ولبعضها طابع شبه استراتيجي، كما حدث إبّان العفو عن متهم إسباني كان سجينا في المغرب بتهمة اغتصاب قاصرين، وعولج الأمر، بعد أن عبّر «فيسبوك» عن تيار عميق في المجتمع رفض العفو الملكي.. وهاته العروض السياسية التي تتبلور في سياج الجدران الزرقاء عادة ما تلقى تجاوبا، جزئيا أو كليا معها، من العقل المفكّر للدولة.
وإذا كان يصعب  الآن أن نجد في النموذج المثالي الفيبيري ما يجعلنا نفسّر به مآلات العمل الحكومي، بحيث إن الحياة الواقعية لا تتضمن بالضرورة مبرّرات تطبيق حرفي خالص للنموذج المثالي في الرياضة على تسيير حكومي له قواعده، فإن الرغبة المعبّر عنها، مع ذلك، تحيل على أزمة مفارقة. هناك مغرب ينجح أمام البرازيل المصنّفة الأولى عالميا بِنِدِّية لم تُعرف من قبل لأي فريق عربي، وفي المقابل هناك مغرب حكومي عجز عن تقديم صورة جدّية عن ضبط السوق، وتفعيل القرارات الحكومية في مجال يهم المواطن في معيشه اليومي.
هناك إغراءٌ، بل نزوع إلى محاكمة الحكومة باعتبارها «فريقا» منتخبا، وله مدرّبه وله قواعده وجمهوره، ومما يزيد من إغراء المقارنة إعلان الحكومة نفسها عن عجزها على «الفوز» على وسطاء كثيرين يشعلون الأسعار، ويزيدون من صعوبة العيش في رمضان.
وهو إقرار جاء في صيغة إعلان  للناطق الرسمي باسم الحكومة الحالية، فقد صرح الوزير المنتدب المكلف بالعلاقة مع البرلمان والمجتمع المدني والناطق الرسمي باسم الحكومة، في أعقاب المجلس الأسبوعي الخميس الماضي، إن «المجهودات التي قامت بها الحكومة للحد من الأسعار لم تحقق أهدافها»، بل أقرّ في جواب، أثار تعليقات عديدة، بعجزٍ مُسوَّفٍ مفاده بأن «مسألة الأسعار أعقد بكثير مما نتصوّر»! وهو ما يعني، في سياق النقاشات العمومية المغربية، عجز الحكومة عجزا مفارقا   بالنسبة لجهاز تنفيذي لطالما وصفته المعارضة بـ»التغوّل»، كنايةً عن الهيمنة القصوى لأغلبيته المريحة، والتي استحوذت على كل فضاءات التمثيلية  السياسية ـ من المحلي إلى الوطني، وملأت الفضاءات الدستورية المتاحة بكاملها. وكشفت التصريحات، في الوقت نفسه، عجزا حكوميا عن «معرفة» طبيعة المضاربات التي ترهق الفئات الوسطى والأقل دخلا والهشّة في التراتبية الاجتماعية المغربية. ولم  يعد في مسوّغات العجز سوى التلميح إلى تعقد المعادلة، في غياب فهمها، مقابل انتظارات عميقة من المواطنين تطالب بالتدخل ووضع حد للوسطاء. وهو ما يمكن اعتباره عنوانا للحكم بدون اتخاذ قرارات تعاكس المتمكنين من دواليب السوق وأسعارها، بالتالي، بدون الدخول في منازعة قانونية وسياسية معهم، وهم ما نفسّره بـ «الحكم بأقل كلفة».
والشيء نفسه يمكن أن نستشفّه، في الجهة المقابلة من خروج مكونات حزبية من الأغلبية الحاكمة للتحدُّث، حديث المعارضة. وهو ما يتضح من تصريحات قادة سياسيين ونقابيين في الأغلبية الحكومية الذين لم يتردّدوا في توجيه انتقادات حادّة للأداء الحكومي فيما يخص موجة الغلاء. ولعل الأبرز فيها تصريح رئيس اتحاد نقابي تابع لحزب حكومي، وهو، في الوقت نفسه، رئيس مجلس المستشارين (الغرفة الثانية في البرلمان المغربي)، نعم ميارة، وهو عادة رجلٌ لا يميل إلى الفرقعات الإعلامية، ومعروفٌ بلباقته ولغته الرزينة. وقد وجّه النقد إلى «الصمت» الحكومي، أي عدم تحرّك شركائه في الجهاز التنفيذي، من أجل وضع حد للاحتقان الاجتماعي الذي يتزايد باستمرار، وهي إشارة إلى مظهر آخر من مظاهر «الحكم بأقل كلفة» سياسية. ولعل الجواب الذي رد به الناطق الرسمي للحكومة على «الخرجة» الإعلامية لهذا المسؤول الكبير في الهندسة السياسية للأغلبية يفيد بالميل إلى استسهال الأمر، حيث وضع تمييزا بين  الحكومة وأغلبيتها! وأحال نقاشا سياسيا، معروفة المؤسسات المسؤولة عليه (الحكومة) على أغلبية محكومة فقط بميثاق لا يُفعَّل عادة. وهو تمييزٌ أيضا يكشف الحرج المؤسّساتي، والسعي إلى المحافظة على الانسجام ظاهر للأغلبية بأضعف الإيمان، إذ لا أحد يمكن أن يفصل، في المسؤولية التي رفعها الدستور إلى مرتبة المبدأ الإجباري، بين الحكومة وأغلبيتها التي تساندها في البرلمان وأمام الرأي العام الوطني المغربي.
الحكم بأقل كلفة سياسية ومؤسساتية للغالبية الحالية خيار محفوف بكثير من القلق والمخاطرة، لأنه قد يعني نقل الاحتقان الاجتماعي والرد عليه إلى مناطق من خارج القدرة الحكومية، وهو أمرٌ لا يمكن التسليم به في الظروف الحادّة التي يعيشها المغرب.

نشر في «العربي الجديد»

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 30/03/2023

التعليقات مغلقة.