الاستقرار الديناميكي الإيجابي وبناء الشراكات الاستراتيجية

عبد الحميد جماهري

لا تخلو زيارة من زيارات كبار المسؤولين الدوليين، لا سيما منهم الأوروبيون والأمريكيون، من تصريحات تشدد على تثمين الاستقرار الذي يمثله المغرب في منطقته وفي القارة، وهو تأكيد يترافق مع الإشادة بالإصلاحات التي أطلقها جلالة الملك.
وهما، الاستقرار والإصلاحات، طرفا معادلة دينامية يعتبرها الشركاء في العواصم الكبرى، وفي القارات، طرفي معادلة واحدة تشكل القاعدة للتعاون المستمر والمستقر بدوره.
وقد عرفت الأسابيع الماضية تناقل العديد من هذه التصريحات، سواء على لسان مستشار دولة النمسا أو على لسان المسؤولين الإسبانيين بمناسبة القمة الثنائية، أو المفوض الأوروبي في شؤون توسيع الاتحاد الأوروبي، وحديثا، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، الجنرال مارك ميلي، الذي صرح بأن المغرب بلد مستقر للغاية في قارة ومنطقة تحتاج إلى الاستقرار، وهي إشارة إلى الدوائر المتداخلة(المتوسط ـ الشرق الأوسط ـ دول الساحل والصحراء والقارة الإفريقية)، التي يسهم المغرب في استقرارها، أو الاستفادة من استقراره هو ذاتيا، في ضمان الاستقرار الجماعي.
الاستقرار السياسي المغربي جزء لا يتجزأ من نجاعة المؤسسات الوطنية بكل طوابقها ومجالات اشتغالها، وهو استقرار لم يأت من فراغ بل هو نتاج مسلسل مبتداه ومنتهاه الإصلاح، وهذا أمر مهم للغاية، يقيم التمييز بين استقرار وآخر.
هناك في المنطقة وفي الجوار القريب ما صار يعرف في الأدبيات السياسية (منذ غلوبال بيس انديكس ـ مؤشر السلام الشامل الصادر سنة 2019) السلام السلبي أو الاستقرار السلبي في مقابل الاستقرار الإيجابي أو السلام الإيجابي…
ويعني الاستقرار السلبي، رفع شعارات «الخوف من العنف أوغيابه» والتلويح المستمر بآثاره لتعطيل ديناميات الإصلاح وانفتاح الحقل السياسي، بل يكون استقرارا قائما على تعطيل القوى الحية في المجتمع تحت رايات التخويف والترويع (بدون أدنى دينامية إصلاحية طبعا كما في دول الجوار)…
ويتضح من المسح العرضاني للمحيط المغربي، أن هناك البلدان التي تعيش حالات تفكك تغيب فيها الدولة وتتفكك فيها مؤسساتها كليا، والتي تعيش صراعات داخلية تستقوي فيها الدولة بالاستقرار السلبي على مكونات المجتمع، أو أنها استبدلت دينامية إصلاحية (وربما ثورية) بأخرى استبدادية مقيتة، هذا إن لم تسع بعض الدول إلى حشر مجتمعاتها في قبو التاريخ بدون القدرة على الحركة والسهر على تمديد سنوات العشريات الدموية السابقة …وهذا أعلى شكل من أشكال الاستقرار السلبي الذي تنفذه الدول ذات الطبيعة العسكرية…
أما السلام الإيجابي، أو الاستقرار الإيجابي فينشأ حول «مواقف ومؤسسات وبنيات قادرة على إنشاء مجتمعات سلمية ومسالمة، وهو المعيار الذي تقاس به قدرة المجتمعات على الصمود للهزات والصدمات بدون السقوط في الصراعات والمنازعات».. ويزيد من الاحتمال بإنهاء الصراعات بسرعة بدون تداعيات بعدية.. ومن هنا تنشأ دينامية متحررة ومحررة للموارد المالية والبشرية لمواصلة سياسة التنمية والإصلاح والانفتاح.
المغرب، كما نشدد دوما، لم يسقط في الاستحالة السياسية في عز التحولات التي ضربت العالم (منها الربيع العربي )، وقد كان من الدول القليلة إن لم نقل النادرة، التي نظرت إلى تاريخها وأعطابها وماضيها وتعثراتها وتضاريسها البشرية والجغرافية، بشجاعة وتبصر، وطوت صفحة الممارسات العنيفة المعطلة لنصف قرن مضى، ووضعت ضمانات دستورية وحكاماتية لعدم تكرار ما جرى بدون الحاجة إلى تغيير طبيعة النظام الملكي، الذي قاد هذه العملية بإقدام كبير، ولم يكن المحرك وحده المصالحة التي تبني الأمن والنظام، بقدر ما كان عتبة إجبارية للتوجه نحو الاستقرار المنتج الإيجابي الذي يضع الأسس المتينة للشراكات الكبرى الداعمة لاستقرار أكبر (دولي وقاري).. وتأطير عنف الدولة، بالرغم من مشروعيته (الدولة تحتكر العنف المشروع حسب ماكس فيبر).. إلى جانب فتح الحقل السياسي للسلاسة المؤسساتية وتوسيع دائرة النفوذ والتمثيلية للأمة من خلال دستور جديد، وانطلقت بذلك دينامية إصلاحية استفادت من الاستقرار والاستقرار دعمها، وتشكل النموذج المغربي في خضم هذا السلام الإيجابي الذي استطاع الانفتاح على المعايير الدولية في تقييم نجاعة الدولة والثوابت الوطنية لتشكيل الهوية..
بطبيعة الحال تكون هذه التصريحات، في مجملها، إنصافا للمغرب وشهادة لها وزنها في التقدير الدولي للنموذج المغربي، الذي تسعى قوى أو تيارات ذات منفعة في الهجوم عليه إلى تبخيس وتبخير ما تم إنجازه تاره بمسميات «عودة السلطوية» وتارات أخرى باسم «الردة»‪..‬
طبعا، في التشديد على «دينامية الإصلاحات الواسعة التي أطلقها الملك»، ما يجب استخلاصه هنا: أي أن القرار الإصلاحي سيادي ومرتبط بسيادة البلاد وبرؤية داخلية أنضجها التاريخ الوطني والحركية الداخلية في البلاد، ان العنصر الخارجي إِنْ وجد هو مخصِّب ومكمل ومحفز ولكنه ليس هو قدح الزناد كما يقال. ونحن وطن يجر وراءه تاريخا طويلا من الإصلاحات (على الأقل منذ منتصف التسعينيات) وما زالت غير راضية تماما على كل ما تم، لهذا لا تسقط في نزعة» اكتفاء ذاتي ونرجسية» متعالية، وتصنف نفسها أكبر من قوتها الحقيقية…، بالرغم من تاريخها الأولوفي الطويل الذي مكنها من «دولة إمبراطورية « تعيش إلى جانب الدولة الوطنية في إطار مشروع لا رجعة فيه لبناء دولة ديموقراطية تعددية سياسيا وثقافيا وعقائديا..

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 07/03/2023

التعليقات مغلقة.