الراهِنيُْ في حياة المؤرخ الاديب والسياسي
عبد الحميد جماهري
نتحلَّق اليوم حول نار الوفاء المضيئة ، لا نمرين اللغة على بلاغة المديح في حق رجل يتسحق أكثر منه، بل لنمر منها الى سيرته الفسيحة العالية، ونختبر جدارتنا في أن نستحق قرابته. اننا بهذا المعنى، نخلد اسم رجل برُع في الجمع بين حقول متنائية الاطراف، تتطلب مجهود علَم من طينة موسوعاتية لم تعد المجتمعات ومنها مجتمعنا تنجب أمثالها إلا قليلا … علَم مند أن كان الشابَ المناضل الوطني، الى أن صار الاستاذ المؤرخ الاديب والفنان والسياسي والنقابي الذي دفع ثمن قناعاته من عمره! ، والذي دلَّته وطنيته ومغربيته على المسارات السرية المختومة بمغاليق لا يروضها الا العالم العارف بتربة بلاده والعاشق لها، ولا يطْمثها إلا العقلُ القادر على المغامرة و الخيالُ القادر على الجمع بين شعاب الاجتهاد والتفكير الحر ابداعا واقتراحا ومثابرة.. له جدوره في تربته الوطنية، والعربية الاسلامية و له اغصانه المتطلعة الى الأفق الانساني و له ثمارها التي تجَمَّع في اريجها الطيب المتنوع والطازج المخضرم.
1 بالعودة الى لحظة الوداع، في ذلك 23 نونبر 1993، على صفحة المحرر، نجد وصفا للجنازة، نادرا ما يكون لراحلين، وصف دقيق لرحلته الاخيرة، بتوقيتها واماكنها وحضورها. في تلك الحركة البلاغية، تقدير خاص، لمن فقدناه، ساعة كان يحدد الطريق الى الابدية. يقول «المحرر« عن تشييع جنازة الفقيد، التي أبنه فيها يومها الزعيم والمناضل الكبير السي محمد اليازغي أطال الله عمره،: يقول الراوي المحرر الصحافي » في تمام الساعة الثانية عشرة زوالا غادرت الجنازة بيت الفقيد بحي بئر قاسم بالرباط حيث اخترق طريق زعير موكب كبير في اتجاه قنطرة مولاي الحسن التي تربط العدوتين وبعد ذلك اخذ الموكب طريقه إلى الضريح ثم جرت عملية الدفن بمقبرة سيدي عبد لله بن حسون التي تطل على مصب نهر ابي رقراق في المحيط الاطلسي وعلى معالم كثيرة في الرباط وسلا المدينتين اللتين عرفتا في الفقيد الوطني الغيور والاديب المفكر..وجوه كثيرة من اجيال مختلفة كانت حاضرة في بيت الفقيد عند مغادرة موكب الجنازة وفي المقدمة بعض اعضاء المكتب السياسي للاتحاد واللجنة التنفيذية الحزب الاستقلال وقدماء الحركة الوطنية ووزراء وسفراء سابقون وموظفون سامون ومواطنون بسطاء ممن عرفوا السي زنيبر في مرحلة من مراحل النضال من أجل الاستقلال أو من أجل بناء نظام ديمقراطي. ومن هؤلاء وأولائك قدماء تلاميذ وطلبة الاستاذ محمد زنيبر وزملاء الله كطالب في كوليج مولاي يوسف او بجامعة الس،ربون واخرون كانوا مع السي نيبر في قائمة المطرودين من وزارة الخارجية بعد اضراب نهاية سنة 1961.
2ـ وهو الاسم العلم الذي جمع المجد من اطرافه، بدون أن يرتكن الى موقع لا ترتضيه نفسه الحرة، ولو كان ذلك نتيجة منطقية لنضاله الوطني الطويل والمرير: في معركة التحرير كان له نصيبه، الذي يشهد به الوطنيون قبل غيرهم، وعند الاستقلال كان الفقيد ضمن الطاقم البشري للدولة المغربية الحديثة في ديوان أب الامة ورائد نضالها الوطني، المغفور له محمد الخامس. الذي توسم نبوغه وهو يمنحه الفرصة للدراسة في الهارج ولكنه هو نفسه محمد زنيبر الذي ناضل مع القوى النقابية والسياسية من داخل حرم الديبلوماسية المغربية في وزارة الخارجية، والذي سيتم طرده، كأي مناضل طبقي لا تهمه المظاهر، ضمن من طردوا في ذلك التاريخ الرصاصي الصاعق. لما أعلن إضراب 20 دجنبر1961 ايام كان الكاتب العام للنقابة المرحوم الحبيب الشرقاوي، وطرد معه العديد من أحسن الأطر المغربية الذين جاء بهم الحاج أحمد بلافريج مؤسس وزارة الخارجية ونجد منهم اسماء باهضة اللمعان و واحد منها غير مألوف هو عبد الصمد الكنفاوي رحمه لله. والناشط ثقافيا ومؤسس التجريب المغربي …
يذكر كل الاتحاديين بأن بيته كان بيت الضيافة،وكان منزله عاصمة اشتراكية بامتياز، للوفود القادمة الى حزب القوات الشعبية، كان مزار السوفيات ايام السوفيات ومزار الفرنسيين والبولونيين وغيرهم من أمم العالم في القرن العشرين، يذكر المناضلون ان اتصالا من الفقيد عبد الرحيم او الحبيب الشرقاوي او مالك الجداوي رحم الله الجميع، يكفي لكي يتولى استقبال الضيوف وإيواءَهم والسهر على راحتهم، بروح مغربية عالية تقدم لهم المغرب الذي لا يبلى..
نحن مدينون له كجيل اتحادي شاب، مدينون لقدرته على القبض على الجمر وعلي المكابدة.. لآنه من قادتنا الذين تحملوا المسؤوولية بتجرد ونزاهة ووطنية مطلقة ونكران ذات تلتمع بدون الحاجة الى اضواء الظهور!
علاقتنا به هي علاقة العائلة الفكرية بكل ما تعنيه من تواطؤ جميل وانسجام مع الذات والعطاء الفياض. والاعتزاز به حيا و ميتا. تماما كما علاقته مع اسرته وعائلته الذي جعل من روح الرابطة بين افرادها فصلا دافئا طوال حياته.. وهو من الذين خاطبوا الحياة بضمير المتكلم الصديق، ولم يسمح للايديولوجيا ان تعوض فرح العيش الكريم والمسرور والمرِح، حيث عُرف عنه أنه كان لا يتعب من السهر الى منتصف ….. الروح!
ويذكر العديد من الاخوة الرفاق والطلبة كيف انه كان وراء اقناع الكثيرين بالالتحاق به في العمل النقابي الكفاحي وصفوة رفاقه في السيرة الملتهبة للاتحاد الوطني لطلبة المغرب أوطم، منهم اساتذة كبار اعلام من امثال عبد الرحمان القادري الفقيه الذي رافقه..
لقد ظل المناضل الطلابي والنقابي والسياسي والقائد الاتحادي الي اخر العمل، لا اخر العمر فقط: فقد فاجأ خبر الكارثة الاليمة رفاقه، لا سيما الذين كانوا قد تواعدوا معه على لقاء في نهاية الاسبوع الاخير من عمره ، من أن اجل ان يزودهم رحمه الله بما يملكه من مهارات. » كانوا على موعد معه وقد كان عازما على إعطاء وقته لاخوانه في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ولاخوانه في صحافة الحزب التي كانت قد دخلت تجربة جديدة بعد توقيف المحرر وميلاد الاتحاد الاشتراكي ، وكان كما عرفوه » طافحا بالافكار والمقترحات وبالنظرات المستقبلية و مقبلا على عطاء كبير في حجم العطاء الكبير الذي قدمه لهذا الوطن، عطا ء رجل وطني مخلص ليتحرر المغرب وليحصل المغاربة على الكرامة .. جاهد منذ شبابه من اجل استقلال وناضل في تواضع وبساطة بجهده بقلمه بوقته وبعطائه،…«
3ـ لما استقل المغرب التحق بديوان المغفور له محمد الخامس اشتغل بروح وطنية عالية ولم يبحث عن جاه ولا عن مال ولا عن خزرف الدنيا، بل عمل لصالح وطنه… وكان محمد زبير من الأوائل الذين خبروا المغرب الافريقي ، عندما اشتغل بوزارة الخارجية على رأس قسم افريقيا… واعطاه من شبابه ريْعانه ، كما فتح ايضا لقسمها العربي آفاق تطوير العمل الوحدوي العربي والمشترك، وتوطيد عرى التواصل مع اخواننا المغاربيين الذين فارقن بيننا وبينهم الاستعمار، قبل ان يعود الى للجامعة … »ساحة جهاده الأكبر« كما يحلو للسي محمد اليازغي ان ينعتها..
حيث سهر على تكوين اجيال متتابعة من مثقفي وشباب شعبنا. وتحَلَّق حول ناره العالمة مؤرخون مبدعون فنانون وادباء وشعراء… ومنهم ،من تتلمذوا على يده وعلى تواضعه واخلاصه لفكرته النبيلة عن الالتزام الفكري والسياسي.
أتساءل بغير قليل من الحيرة: كم من واحد، من نخبنا اليوم قادر ان ينتزع نفسه من منصب في اعالي الدولة لو حازه، او من كرسي وزارة طرية كالخارجية لو كان قدر قسم افريقيا بين يده.. كم يا ترى من واحد قادر ان ينتصر لنفسه وقيمه وثباته وجدارته الاخلاقية، بعد أن يستطيب الجوار الحريري للسلطة؟
تراني لا أحير جوابا وأنصت لهاتف بعيد يقول فجرا وظهرا ووقت السحر : لا يوجد اي مشترك في الرقم الذي تطلبونه.. المرجو عدم إعادة المحاولة لاحقا !..
ايها السادة والسيدات ، عاملة الفقيد الغالية
4ـ لا شي في حياته ليس راهنيا:
+عمله في الوزارة علي رأس قسم افريقيا في زمن التوجه الافريقي المغربي، في ذاك الزمن التحرري عندما كانت الرباط عاصمة التقدميين الافارقة وقبلة الثوار مهمة راهنة الان بكل القوة التي يملكها البعد الافريقي لديبوكاسية المغرب الحالية ، يجعله راهنا اكثر من غيره..
+ كما أن كتاباتِه في التأصيل لحركة الريف التحررية وارتباطها بالمشروع التحرري الوطني، ونحن نقف اليوم علي مؤامرات تستهدف هذا البعد الوحدوي للارث النضالي لأبنائنا واهلنا في الريف الشامخ. يجعله راهنا وحجتَنا في وجه المتآمرين..
+ نضاله من اجل بناء اتحاد كتاب المغرب القوي والمبادر والشجاع والحيوي، راهنيٌ اليوم في وضع الضمور التراجيدي لمؤسسة اعطاها من روحه وعقله وجسده وابداعه. .عندما انضم إلى اتحاد كتاب المغرب منذ تأسيسه وانتخب عضوا في المكتب المركزي المنبثق عن المؤتمر الثالث المنعقد في دجنبر 1970. وساهم في الإشراف على تحرير مجلة «الثقافة المغربية»، كما كان عضوا في الهيئة الاستشارية لمجلة » الكتاب المغربي « وآحد العقول الرشيدة في توثيق تاريخ المغرب ونبوغه من خلال عملة المغرب الموسوعية الي جانب المرحوم محمد حج واخرين.
ومن سيرته كذلك أنه اشتغل أستاذا جامعيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط إلى أن وافته المنية سنة 1993 ، وهو من بين قلة قليلة من اعلام المغرب الذين غادروا المنصب الي الجامعة، مكانهم الطبيعة لتربية الذوق العام والعقل الوطني.
ولم تكن بناتُ افكاره واراؤُه ليطالها التقادم، كما يدل على ذلك مجهوده الفكري في تأهيل الوطنية المغربية، بسبر امتداداتها في ثورة الزعيم محمد ابن عبد الكريم الخطابي. في كتابه الشيق ومحاضرته البحثية الدقيقة حول » صفحات من الوطنية المغربية من الثورة الريفية إلى الحركة الوطنية «
إن الحاجة اليوم قائمة، على هذا الترابط القدري التاريخي والهوياتي بين التراث التحرري الكبير لزعيم معركة انوال وبين الوطن وحاجة الوطنيين الى خزانها الرمزي والمادي لتحصين البلاد،بعد ان ثبت أن المعادلة التي نواجهها هي التي وجه اليها الفقيد السي محمد مجهوده وابداعه العلمي والوطني: لقد انتهي الاستعمار، ولكن الخيانة لم تنته..
إن كل لحظة نحتفي فيها بالفقيد تعلمنا أن الماضي مع السي محمد زنيبر وامثالِه، وقتٌ مقتطع من أبدية الخلود. ويكون الحاضرَ فسحةٌ للبناء بالمساءلة، والمستقبلَ أفقٌ مرغوب فيه …لمزيد من الانسانية الذكية!
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 29/11/2024