السجال السياسي‮ ‬بين‮ ‬«يوتيوب» وخامنئي!‮‬ 2

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

نجد في‮ ‬الوضع الراهن أن‮ ‬الدولة المغربية تعاملت بطريقة رفيعة في‮ ‬وضع متقلّب منذ «‮7 ‬أكتوبر»،‮ ‬وما تلاه من عدوان على‮ ‬غزّة‬،‮ ‬بحيث كانت تعلن مواقفها المبدئية إلى جانب الشعب الفلسطيني‮، ‬وتنديدها بالعدوان، وبالحرب الوحشية عليه، والتزامها بالمساندة اللامشروطة لحقّه في‮ ‬دولته المستقلة وعاصمتها القدس،‮ ‬التي‮ ‬يتولى الملك محمد السادس رئاسة لجنتها التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي‮. ‬علاوة على ذلك،‮ ‬حفظت للشارع العام حقّه في‮ ‬طقوس الرفض، ولعلّ الشارع المغربي‮ ‬عرف‮ ‬في‮ ‬هذا المضمار أكبر عدد من التظاهرات المناصرة لغزّة في العالم،‮ ‬وتركت الحرية مطلقة للطيف السياسي‮ ‬في‮ ‬التعبير‮ ‬عن مواقفه أو مساندته دعوات الجمعيات الأهلية المرتبطة بالقضايا القومية أو الدينية، بل تابعت من دون ردّات فعل سلبية‮ ‬تحويل إسقاط الاتفاق الثلاثي ‬مع إسرائيل وأمريكا والمغرب، إلى شعار مركزي،‮ ‬يتقدّم أحياناً على مناهضة الحرب ذاتها‮. ‬وتفاعلت بذكاء‬ جمع بين التكتيكي‮ ‬والاستراتيجي ‬مع مواقف أطراف الصراع،‮ ‬بالرغم من الاتفاق‮ ‬المذكور،‮ ‬وحضرت أكثر من أي‮ّ ‬طرف آخر في‮ ‬الجانب الإنساني‮ ‬المساند للفلسطينيين في‮ ‬غزّة أو في‮ ‬القدس، من خلال مبادرات مقبولة من الجميع‮.‬
ولعلّ ‬الصمت‮‬ ‬كان من أبرز عناصر الذكاء الرسمي‮ ‬بشأن ‬ملفّات التواصل حول هاته القضايا،‮ ‬بفعل القناعة الاستراتيجية الديمقراطية‮ أو بفعل الذكاء التكتيكي‮ ‬التدبيري. ومن الملاحظ أن الدعوة الوحيدة إلى التظاهر شعبيا‮ً ‬مناصرةً‮ ‬لإيران‬،‮ ‬لم تعرف النجاح المتوقّع،‮ ‬الذي‮ ‬رافق كلّ التظاهرات المساندة لشعب فلسطين في‮ ‬غزّة (وغيرها)،‮ و‬يتعرّض للعدوان من الطرف الإسرائيلي‮ ‬الذي‮ ‬يتحارب مع إيران،‮ ‬بل لعلّ الذين دعوا إليها لم‮ ‬يجتهدوا في‮ ‬ذلك، بالرغم من إعلانهم الانتصار لحُكم الملالي‮ ‬إبان المواجهة بسبب الموقف الإيراني‮ ‬المعروض أعلاه‮. ‬وفي مقابل انخفاض مستوى المواجهة‮ ‬بين الفاعلين العضويين‮‬،‮ ‬رسمياً وشعبياً‬، ارتفعت حدّة السجال الحاصل في صفحات الوسائط الاجتماعية‮‬،‮ ‬وقنواتها‮. ‬والواقع أن رئيس الحكومة الأسبق‮ ‬يهمنا هنا، لأنه شخصية سياسية رافقت واحدةً من أهم مراحل المغرب بعد «الربيع العربي»‬،‮ ‬ضمن سياق إقليمي‮ ‬ودولي‮، وجه من وجوه الإسلام السياسي‮، ‬كان أمام‮ ‬امتحان‮ ‬تاريخي‮ ‬في‮ ‬الانتقال بالإصلاح إلي‮ ‬مرحلة متقدّمة من خلال الحرص على التفعيل السليم لدستور‮ ‬2011، ‬لكنّه أهدر الفرصة التاريخية‮ ‬لفائدة تطبيع وجوده في‮ ‬حقل سياسي‮ ‬لم‮ ‬يكن‮ ‬يرحّب به،. ‬و‬يهمنا‮ ‬في‮ ‬موقفه المساند لطهران‮، ‬لأنه عوّض‮ ‬غياب هؤلاء‮ ‬الفاعلين جميعاً‮ (‬رسميين كانوا أو شعبيين وحزبيين‮)، ‬واستنكافهم عن السجال معه، ‬بحرب ضدّ‮ ‬ثلة من الصحافيين،‮ ‬يهتمون بشكل مسترسل بمناقشة القضايا المغربية،‮ ‬من الصحراء إلى الأحداث الاجتماعية مروراً بكرة القدم والممتلكات الثقافية ‬والذاكرة السياسية الحديثة والسلوك المدني ‮… إلخ‮. ‬ولعلّه سعى، في‮ أحيانٍ كثيرة، إلى إلباسهم لبوساً سياسية وسلطوية أكبر بكثير من حجم أي‮ّ ‬قوة صحافية، ‬حتى‮ «‬يستريح‮» ‬في‮ ‬الحرب معهم. وسرعان ما اختفى‮ ‬السياسي‮ ‬في‮ ‬التواصلي‮، ‬الذي‮ ‬عوّضه‮‮ ‬الشيء الذي‮ ‬يفسّر حُلم‮ ‬سياسيين كثر (‬من حسن الحظّ ليسوا كلّهم‮) ‬بأن‮ ‬يصبحوا مؤثّرين‮ (‬يوتيوبرز‮).

‬‬وتبيّن أن السياسي‮ ‬في‮ ‬المغرب،‮ ‬وقد‮ ‬يكون معارضاً ‮(‬في‮ ‬حالتنا هاته‮)، ‬كما قد‮ ‬يكون في‮ ‬الأغلبية الحاكمة ‮( ‬وزراء‮ ‬يستعينون بالمؤثّرين مثلا‮ً)، ‬عندما‮ ‬يجد صعوبةً في‮ ‬تصريف خطابه‮ ‬يحلم‮ ‬بأن‮ ‬يصبح هو نفسه منتج مضامين أو عنصر تأثير‮ (‬يوتوبيرز‮)‬،‮ ‬ويتوسّل الدخول إلى المنصّة الشبابية باعتماد الآخرين أو أسلوبهم وباعتماد ‬المؤثّرين أو أسلوبهم، أو استعمال لغتهم، ‬أو الدخول إلى المنصّات من خارج القنوات المعروفة، ‬ولسبب من الأسباب‮ ‬يشعر أن الوسائل التقليدية لا تنفعه‬،‮ ‬بل ‬قد‮ ‬يهاجمها ليتميّز خطابه عنها،‮ ‬وهو‮ ‬يدرك أن شاشة الهاتف النقّال تصل إلى الجمهور أكثر من شاشة القنوات السمعية البصرية في‮ ‬بلاده المحكومة بقوانين مستمدّة من‮ ‬الدستور، الذي‮ ‬يحرص علي‮ ‬تحديد مروره‮ ‬فيها حسب التوزيع الذي‮ ‬تفرضه‮ ‬السلطة العليا في‮ ‬السمعي‮ ‬البصري‮. ‬ولهذا،‮ ‬يفضّل دخول حقل مفتوح،‮ ‬وبلغة لا تخضع لأي‮ ‬شرطية‮‬،‮ ‬مفتوحة بدورها،‮ ‬لا تقف عند حسن استعمال القاموس الرزين والعقلاني‮ ‬الذي‮ ‬قد‮ ‬يتعرّض للرقابة في‮ ‬القنوات المشتركة‮، ‬وقد تمتح من القواميس الحيوانية عناصرَ‮ ‬تأثيرها،‮ ‬بدءاً‮ ‬من نعت الخصوم بالميكروبات إلى وصفهم بالحمير (مرورا‮ ‬بالكلاب‮ ‬والحشرات)، بصدى الإنترنت وعلى رؤوس الأشهاد‮.‬
‮وعندما‮ ‬ينقل السياسي‮ ‬النقاش،‮ ‬سيّما في‮ ‬بلاد معروفة بتقاليدها في‮ ‬النقاش السياسي،‮ ‬وقدرة العبارات الدالّة والدقيقة فيها على صنع الأفق السياسي،‮ ‬من الفضاء العمومي‮ ‬المؤسّساتي‮ ‬إلى فضاء من دون تقاليد عريقة،‮ ‬ومن دون استعمال جيّد لـ»يوتيوب»،‮ ‬لا يعني‮ ‬ذلك ضمان النجاح السياسي‮ ‬أو الانتخابي‮، سيّما في‮ ‬غياب محتويات ناضجة ولها صلة بالواقع أو تستعين بالتحفيز على الانخراط السياسي،‮ ‬بل‮ ‬يكون المحقّق أن السياسة تفقد مادّتها الأساسية،‮ ‬وعقلها الراجح‮. ‬والاستنتاج الأول أن‮ «‬الشعبوية الافتراضية» ‬قد تقتل الالتزام الواعي‮ ‬والمنتج والفاعل، ‬وإن‮ ‬شكّلت تنفيساً مؤقتاً عن‮ ‬غيض من السياسة‮.‬
‬ختاماً‮، ‬يبدو أن أول ضحايا‮ هذا النقاش الموزّع بين سياسة علي‮ ‬خامنئي‮ ‬وأولوياته الاستراتيجية محتوىً، وبين الساحة المفتوحة لهذا النقاش،‮ ‬لا سيّما «يوتيوب» ومشتقّاته‬، فضاءً افتراضياً‮ ‬لاحتضانه، هو ‬الواقع السياسي‮ ‬المغربي‮ ‬نفسه، ‬بحيث إن السياسة كلّها تدور بين ‬الخارجي‮ ‬والافتراضي،‮ ‬وذلك على حساب الواقع الذي‮ ‬يغلي‮ ‬ويمور بقضايا كبيرة تهم الإصلاح الداخلي،‮ ‬وهو أمر من حسن حظّ المغرب أن العقل المركزي‮ ‬في‮ ‬الدولة لا‮ ‬يستهين به، ويتّخذ فيه المبادرات التي‮ ‬لا بدّ منها،‮ ‬سواء في‮ ‬تفعيل الدولة الاجتماعية أو في‮ ‬تحصين التنوع الثقافي‮ ‬والمساواة ‬أو في‮ ‬تجويد الموقع الجيوسياسي‮ ‬والريادة الأمنية أو في‮ ‬واجهة الوحدة الترابية (أمّ القضايا‮)، ‬نظّارة المغاربة في‮ ‬تقدير المواقف‬،‮ ‬داخلياً وخارجيا‮ً.

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 11/07/2025