النخب المغربية الفرانكفونية وفرنسا.. القطيعة الجذرية الثانية؟ 2/2

عبد الحميد جماهري

في المقابل، انتبهت القيادة الفرنسية إلى موجة العداء العميقة التي تخترق النخب الإفريقية عموما، والمغربية خصوصا، وحاولت الرئاسة أن تَنسب ذلك إلى تأثيرات روسية وأخرى تركية في القارّة، وهو أمر لا ينطبق على المغرب بالذات، بل إن صحافة فرانكفونية مغربية تجعل أغلفتها الأسبوعية تحت «مانشيتات» تعكس هذا النفور، كما أنها تحدّثت عن فرنسا (وموهبتها الرهيبة في فقدان الأصدقاء) في هذه الفترة. ولعل العداء الذي تغذّيه فرنسا في المغرب يصيب الطبقة الوسطى العليا إذا شئنا القول، كما يمسّ النخبة التي تشكلت في رحم اللغة وفي الاقتصاد وفي الإدارة وفي مركز الدولة كنخبة صاحبة قرار.
وقد سجّل المغرب في الماضي وجود نخبة استطاعت أن تتكون في خضم الوعاء اللغوي والفكري الفرنسي، وهي التي قادت، في جزء كبير منها، المفاوضات من أجل الاستقلال، بل حول الترابط المتبادل بين البلدين، وسرعان ما كانت السند الرئيسي لبلدها في مواجهة الفرنسيين، حتى أن المفاوض الفرنسي الرئيسي، إدغار فور، كان يشيد بدرجة إتقانها اللغة الفرنسية وتأثرها بالتراث الفكري الفرنسي التقدّمي منه أو الفلسفي أو الليبرالي المتنوّر.. وهذا لم يمنعها من أن تسعى إلى تكوين الاقتصاد والمدرسة والمؤسّسات المحلية على قاعدة التحرّر الوطني، وذات نفَسٍ تحرّري بعيد عن الوصاية (تحرير الدرهم وإقامة النظام البنكي المغربي، وتنويع التمويل مع الإيطاليين ووضع البنيات الصناعية الكبرى من قبيل شركة التكرير سامير ومعامل الصلب والحديد.. إلخ)، وكانت تلك القطيعة الأولى للنخبة مع حاضنتها اللغوية.
ولطالما كان التمييز باللغة أحد أسباب الاختلال في التنخيب (إنتاج النخب) والتأهيل المعرفي للدخول إلى دائرة الطبقات العليا المتحكمة. وفي هذه الخطاطة، كان التعليم العنصر العملي الحسّاس في إنتاج النخب التي تشمل طاقم الدول، بل يذهب الباحثون (بيير فيرمورن مثلا) إلى التشديد على قانوني (التبعية والإدماج) في تكوين النخب في المغرب الكبير، وعبر دمجها في النظام الفرنسي أولا، ثم الأوروبي ثانيا.
وفي خضم القطيعة الثانية، قبل الأزمة حتى، بدأت إعادة التفكير في هذا المنحى علانية، وبمؤسّسات دستورية وأخرى توافقية بين طبقات المجتمع وتشكيلاته السياسية. وكان من اللافت أن جزءا كبيرا من اللجنة المكلفة بصياغة النموذج التنموي الجديد للمغرب، وفي قلبه المسألة اللغوية في التدريس، التي وضعها ملك المغرب محمد السادس، لصياغة خريطة الطريق في أفق 2035 قد ترأسها سفير المغرب في باريس، وأحد الخبراء الذين عملوا في النظام الشامل للدولة، وخلصوا إلى ضرورة إعادة النظر في الهندسة اللغوية للمغرب عبر الانفتاح على الإنكليزية. وكان لافتا أنه هو نفسه، باعتباره وزير التربية الوطنية حاليا، اتخذ قرار إدماج الإنكليزية في الأقسام الابتدائية، وهو قرار لا سوابق له في المدرسة المغربية.
ختاما، يمكن القول إن التاريخ يفيد بأنه في العلاقات المتشابكة بين المستعمر السابق والدول المستقلة تصبح اللغة قانونا: في السلطة، وفي النفوذ، وفي الاقتصاد، كما في تحديد الهويات. وبالرغم من أن للنخبة الفرانكفونية حضورا قويا في التأثير على القرار الفرنسي، عكس النخبة (الإسبانفونية) المغربية مع الجزيرة الإيبيرية، من الأدب إلى البرلمان إلى العلوم والجامعات والصناعات الفكرية، فإنها اليوم لا تخفي تبرّمها من فرنسا ماكرون، التي تبدو قريبة إلى ما كان يسمّى (فرانس إفريقيا)، التي رعت ذاكرة المستعمرين القدامى .. ولا شيء يمكنه أن يعيد الأمور إلى نصابها إلا قرار متقدّم في قضية المغاربة الأولى، أي الصحراء التي يغفر باسمها المغاربة كل شيء سبق، وهذا موضوع آخر…
نشر بالعربي الجديد

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 30/09/2022

التعليقات مغلقة.