بلاغة اليسار في وصف الحال
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
لا يمكن أن ننكر بأن الحدث السياسي الوحيد الذي أصبح له معنى، في موازاة مع الرتابة الموصوفة في كل ما يصدر عن الحكومة، كان هو إعلان حزبي المعارضة اليسارية عن تصريح سياسي مشترك يؤطر نشاطهما داخل الرقعة السياسية الوطنية.
وفي قلب هذا الحدث كانت قيمة القاموس السياسي الواصف عالية، وتكشف قدرة حركات اليسار على الإبداع التواصلي القادر على تدقيق الفكرة وتجويد النقاش العمومي.
وفي هذا السياق، تعددت الصور البلاغية التي تم تسويقها في لقاء يوم الجمعة بمقر الاتحاد الاشتراكي بالرباط، في وصف الواقع السياسي، وفي تحديد الموقع الحقيقي لكل الفاعلين في رقعة الشطرنج المؤسساتية في المغرب، كما شكلت هذه البلاغة قاعدة تواصلية في تفسير ما حصل بين الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية.
وكان من صميم الخطاب السياسي للقائدين، نبيل بنعبد لله وإدريس لشكر، في الندوة التقديمية للتصريح السياسي المشترك، أن اللغة كانت عنصر تحريك وتنشيط للتفكير السياسي.
لقد نبه الحزبان إلى وجود استفراد وتحكم في صناعة المعيش السياسي، مع ما يرافق ذلك، في مفارقة عجيبة، من هزال تواصلي وفراغ سياسي وعجز اجتماعي، وعوض أن تكون هذه الهيمنة، قاعدة لبناء دينامية سياسية قوية، وقادرة على التعبئة وخلق خدمة وطنية مسترسلة لفائدة الدولة والمجتمع، طورت على العكس من ذلك نوعا من الاستعلاء السياسي وضمورا كبيرا في التواصل وصناعة النقاش العمومي.. وهذه الهيمنة، بلا امتدادات اجتماعية قادرة على تأطير الحركيات المجتمعية المختلفة، لم تصنع، علي مستوى الهيئات والكوادر الوسطي الإقليمية والجهوية روحا موحِّدة، بل كان من أبلغ ما قاله الكاتب الأول للاتحاد هو أن الإدارة الترابية صار من مهامها الكبرى تدبير الأغلبيات في الجماعات والمجالس»، حتى لا تتفكك ويزداد تحللها نظرا للتطاحنات بين مكوناتها (مثال الرباط).
ولعل الكثير من التناقضات يتم حلها بترضيات بينية تكون على حساب المعارضة والقانون، كما تم في الدار البيضاء، وحرمان المعارضة من حقها القانوني والديموقراطي، من أجل الحفاظ على وحدة قيصرية بين مكونات الأغلبية…
لعل الوصف دقيق وخطير للغاية، يشكل قنبلة بالنسبة لإدارة ترابية صار من مهامها سقف أدنى بكثير من أفق المغرب الجديد متمثلا في الدولة الاجتماعية وتفعيل النموذج التنموي الجديد، مما يجعل هيكلة الأغلبية عنصر تعطيل أكثر منه عنصر تحفيز…
في الجانب الآخر من الصورة، تأثير هذا على صورة الديموقراطية المحلية، وأساسا على مفهوم التدبير الحر، كقيمة في تفعيل الديموقراطية على المستوى المحلي. نحن أمام انحسار وضمور في الفعل الديموقراطي بسبب هيمنة الأغلبية، بدون قاعدة فكرية ولا قاعدة اجتماعية تخفف من الصدمات الاجتماعية حاليا، وفي ما وصفه الحزبان مفاتيح مواقف علنية ومضمرة للأغلبية تريد أن تحمل الوسائل النقابية والاجتماعية وحدها مسؤولية ضعفها…
الحقيقة أن الأغلبية لا تملك قنوات تواصل مؤسساتية واجتماعية مؤطرة بفكرها، وتحرك بتياراتها قطاعات مهمة من المجتمع، ولعل تحميل المسؤولية بالمطلق للنقابات والوسائط المهنية، تعمل كل ما في وسعها لإضعافها، هو هروب إلى الأمام ومحاولة إخفاء شمس الحقيقة بغربال الديماغوجية…
وعلى ذكر الدولة الاجتماعية تبين بأن الحاجة ماسة إلى اعتناق جدي وصميم وتكويني.. فقد كانت الدولة كفلسفة عنصر تبئير في خطاب اليسار. وهو أفق بناه بالقناعات الفلسفية والنضالية والاجتماعية التي تبنتها تيارات.. التقدمية والاشتراكية الديموقراطية. وفي غياب ذلك عند مكونات الأغلبية يتبين بأن عبارة الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية كانت بليغة بكل قسوتها وهو يتحدث عن السرقة الموصوفة للدولة الاجتماعية من طرف الأغلبية، وخصوصا منها ذات المكون الليبرالي!
لقد أغلقت الأغلبية الحقل السياسي عموديا وأفقيا.. وكانت بذلك تغلقه على …ضعفها الذاتي أيضا!
وقد وصل بها الاستعداد إلى درجة ألغت فيها تقاليد من صميم الإجماع الوطني، كما حدث في تمثيلية الوفد الذي توجه إلى جنيف في ملف حقوق الإنسان، وهو سلوك ابتدعته الأغلبية من أجل الترقيات، وما كان لأحد أن يتصوره في قضية مثل القضية الوطنية والقضية الحقوقية، ومن الجدير بالانتباه ذلك التوازن الذي قام به الكاتب الأول للاتحاد بخصوص تمثيلية الوفود، أيام كان المرحوم علي يعتة نائبا فريدا ومتفردا عن التقدم والاشتراكية، والمعارضة الاتحادية ضعيفة العدد، ومع ذلك كان حضور الصوت اليساري في الوفود البرلمانية محترما ويتم مراعاة حضوره.. عكس ما حدث في آخر مهمة برلمانية..
إن حسن تسمية العالم من شأنها أن تزيد من فهمه أكثر وأحسن، وهو ما شاهدناه وتابعناه، وتابعه الرأي العام الوطني.. في بلاغ الحزبين، حيث أصبح من الأولويات إنقاذ النقاش العمومي من نزوعات التبخير والشعبوية والعدمية، كجزء مهم من بناء مكونات المغرب السياسي الجديد…
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 19/12/2023